| علي عبود
تفاجأنا منذ عامين بارتفاع أصوات في عدد من الدول الأوروبية أثناء أزمة كورونا تطالب بتأميم عدد من القطاعت الصحية والخدمية والمصرفية، ومع تجدد أزمة كورونا والتداعيات الكارثية للخيارات القاتلة للإتحاد الأوروبي ضد العملية العسكرية لروسيا في أوكرانيا، عاد خيار التأميم إلى الواجهة بقوة باعتباره المنقذ الوحيد لـ (ورق التواليت) الأوروبي!!
وخلافا لما يُروج له الكثير من المنظّرين فإن التأميم ليس بدعة شيوعية ولا ناصرية، ولا حتى بعثية، وإذا كان أول مايخطر على بال الناس منذ ستينات القرن الماضي عند ذكر التأميم، هو قناة السويس في مصر والشركة الخماسية في سورية، فإن الهدف من ذلك كان ولايزال تشويه صورتي عبد الناصر والبعث، دون أن يجيب أحد على السؤال: أيهما افضل أن تبقى قناة السويس خاضعة لإدارة مباشرة من الغرب الإستعماري أم تُحرّر من قبضته لتعود إلى سيادة الدولة المصرية؟
وأيهما أفضل أن تبقى شركات صناعية كبرى في سورية في مقدمتها الشركة الخماسية التي كانت، باعتراف عملاء أمريكا في لبنان، تدير البلاد وتموّل الإنقلابات.. أم تؤمم وتعود لسيادة الدولة؟
ولو استعرضنا تاريخ عمليات التأميم فسنفاجأ ان مامن دولة في العالم تقريبا إلا ولجأت إلى التأميم سواء لاستعادة سيادتها على أكبر المرافق الإقتصادية، أو لمواجهة أزمات كبيرة تهدد البلاد كما هوحال أوروبا الآن.
والتأميم ببساطة هو نقل ملكية قطاع معين إلى ملكية الدولة، ولجأت إليه جميع الدول في بدايات استقلالها أو مباشرة بعد انتهاء حروب كبرى انهكت مواردها كالحروب العالمية الكلاسيكية والحديثة.
وفي هذا السياق العام للتأميم، قامت اسبانيا بتأميم السكك الحديدية عام 1941 بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، وقامت بتأميم بنك أسبانيا عام 1962، وقامت في عام 1983 بتأميم شركة (راموسا) دون أي تعويض لمالكها !
وخلال سنوات 1939 ـ 1948 قامت السويد بتأميم معظم الشركات الخاصة للسكك الحديدية، وفي عام 1992 أممت أجزاء كبيرة من القطاع المصرفي أي في ذروة الليبرالية الرأسمالية.
وبدأت مسيرة التأميم في فرنسا بتاريخ مبكر جدا عن مصر وسورية، ففي عام 1938 أممت الحكومة حصة القطاع الخاص من الشركة الوطنية للسكك الحديدية البالغة 49 % لتصبح ملكية للدولة بنسبة 100%، وقامت في عام 1945 بتأميم معظم بنوك فرنسا، وكان القرار الأبرز تأميم شركة رينو للسيارات بعد اتهام مالكها لويس رينو بالتعاون مع النازية، وبقيت الشركة مؤممة إلى أن خصخصتها الحكومة في عام 1996.
حتى الولايات المتحدة لجأت إلى التأميم، فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أممت (صناعة سلامة المطارات) ووضعتها تحت سلطة (إدارة سلامة النقل)، وناقشت الإدارة الأمريكية بعد أزمة كورونا خيار تأميم شركة بوينغ العملاقة!
وقد يُفاجأ الكثيرون أن البند الرابع من دستور بريطانيا ينص على تأميم وسائل الإنتاج، أي تماما كما كان الحال في الإتحاد السوفييتي السابق، بل إن قيادات في حزب العمال البريطاني أعلنت مع بدء انتشار جائحة كورونا وتراجع موارد الدولة أن (إعادة التأميم جيدة سياسيا وشعبيا ..)!
وفي عام 2020 أعلنت الحكومة الإيطالية أنها مستعدة لتأميم شركة الخطوط الجوية “أليطاليا”، في إطار الإجراءات الاقتصادية الطارئة المتخذة في ظل تفشي وباء فيروس كورونا.
وكشف وزير المالية الفرنسي مؤخرا ان الحكومة أعدت قائمة بالشركات التي قد تحتاج إلى دعم الدولة تتراوح بين ضخ رأس المال والتأميم التام، مؤكداً أنّ “التأميم هو الملاذ الأخير، ولكنه شيء لا نستبعده”.
وفي المنطقة العربية أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود في عام 1963 (أي عام ثورة 8 آذار وانطلاق التأميم في سورية) قرارا بتأميم الصحف السعودية ، وفي الجزائر أممت الحكومة المناجم في عام 1966 وقطاع المحروقات في عام 1971، وشركة الإتصالات في عام2014 ، وأمم العراق قطاع النفط عام 1972 ، وأممت مصر شركة قناة السويس عام 1956.
كما نلاحظ عمليات التأميم توقفت في سورية منذ عام 1970 لكنها استمرت في الكثير من البلاد الأخرى، وهاهو يطرح كخيار وحيد لإنقاذ ورق التواليت الأوروبي!
نعم، تتعرض اقتصاديّات دول الاتحاد الأوروبي إلى انخفاضات قياسية تجسدت بتراجع قيمة اليورو مقابل الدولار الأميركي، وخلافا لما تُروج له البربوغاندا ليس تراجع اليورو سببه الأزمة الأوكرانية فقط، وإنما السبب الرئيسي قيام البنك الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة مما أدى إلى تراجع جميع العملات العالمية أمام الدولار باستثناء الروبل!
وكان على قادة دول الإتحاد الأوروبي أن يتوقعوا الكوابيس التي راودتهم حسب زعمهم على حين غرة ، فاليورو تراجع إلى أدنى مستوياته، وأصبح يساوي دولارا واحدا فقط للمرة الأولى منذ عشرين عاما.
نعم، لقد عادت كوابيس 2002 إلى أوروبا بعد انطلاقة اليورو الأولى، حيث بقي لعدة سنوات يواجه تراجعا في قيمته دفعت بتجار العملات إلى تسميته بـ (ورق التواليت)!
ولم يستعد اليورو قوته إلا بعد عمليات إنقاذ من قبل بروكسل وبرلين وباريس كلفت حكوماتها المليارات!
والبارز في كل مايجري الآن، عودة التأميم كخيار وحيد لإنقاذ اليورو قبل أن يتحول مجددا إلى (ورق تواليت)!
(سيرياهوم نيوز-14-8-2022)