*علي عبود
شغلتنا جهات حكومية عديدة في الأسابيع الأخيرة، وفي مقدمتها وزير التجارة الداخلية، بدراسة تجريها لإيصال الدعم إلى مستحقيه والتي ستستبعد 25% على الأقل من الدعم ! والهدف المعلن لهذه الدراسة زيادة حجم الدعم لـ 75% من الأسر السورية محدودة الدخل.. فهل هذا صحيح؟! من المؤسف أن ينخرط بعض الأكاديميين والمنظرين في “همروجة” الدعم بالتحليل وبتقديم المقترحات، وكأنّ الدعم سيعيد المواد الأساسية التي خرجت من موائد ملايين الأسر السورية بفعل ارتفاع أسعارها الذي لم، ولن، يتوقف طالما التضخم إلى ارتفاع لا إلى إنخفاض! لقد غاب عن الكثيرين طرح السؤال: لماذا تدعم الحكومة محدودي الدخل؟ والجواب لأن الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 على الأقل قامت، عاما بعد عام، بتخفيض أجر ملايين العاملين إلى حد لم يعد ينفع معه أي دعم لتأمين مستلزمات ملايين الأسر السورية! وبدلا من أن تؤكد الحكومة أن نهج الدعم مستمر ولن يتوقف، فإننا مع إلغاء الدعم بكامله واستبداله بنهج الأجر الذي يؤمن المعيشة والسكن كما كان الحال سابقاً! لا نقول أن تتخلى الحكومة عن الدعم، بل أن توجهه فعلا إلى مستحقيه، أي إلى العاطلين عن العمل، ولا ندري أسباب عدم منح راتب بطالة لمن يفقد عمله لسبب من الأسباب أسوة بالكثبر من دول العالم. من الطبيعي، بل والمنطقي، أن تردد الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 إن مواردها لا تسمح بزيادة الرواتب والأجور إلى الحد الذي يكفي متطلبات المعيشة اليومية، حسب النص الدستوري الصريح، ولكننا لا نفهم أن يؤيد أكاديميون ومنظرون وجهة نظر الحكومة، فيؤكدون انها عاجزة عن رفع الأجور بما يزيد عن متطلبات المعيشة والسكن، فهل هذا صحيح؟! لقد تلقّى العاملون بأجر ضربات متتالية أصابت دخلهم بالصميم لأنها أفقدتهم القدرة الشرائية إلى حد لم يعد يكفي فيه الدخل حتى الكفاف اليومي للحياة!! وبعد أن كان راتب التعيين في بداية ثمانينات القرن الماضي يعادل 250 دولارا على الأقل، يكفي لتأمين السكن والمعيشة والكثير من الرفاه الاجتماعي مثل السياحة الداخلية، أنخفض هذا الدخل تدريجييا بفعل قرارات حكومية بتعديل سعر الصرف إلى 200 دولار في تسعينات القرن الماضي فإلى 105 دولارات في العقد الأول من القرن الحالي إلى أن أصبح راتب بدء التعيين بعد الزيادة الأخيرة للرواتب والأجور لا يتجاوز 41 دولارا لحاملي الإجازة الجامعية!! ورافق كل ذلك ارتفاع متسارع لم، ولن، يتوقف لجميع السلع الأساسية لمعيشة الأسر السورية، حتى راتب بدء التعيين بسعر الصرف الحالي هو فعليا أقل من القدرة الشرائية لراتب الـ 40 دولارا في ثمانينات القرن الماضي بعشرات الأضعاف! ونعود لسؤالنا مجددا: هل الحكومات المتعاقبة كانت عاجزة عن تعديل الأجور وفق سعر الصرف الرسمي؟ نحن هنا أمام إجابتين: أيام حكومات الوفرة التي استمرت حتى عام 2011، وأيام حكومات الندرة والأزمات خلال السنوات العشرة الماضية! أيام حكومات الوفرة كانت المديونية صفرا واحتياطي القطع الإجنبي لا يقل عن 17 مليار دولار ونصدر السلع الرئيسية من نفط وقطن وقمح وفوسفات..الخ. في أيام الوفرة بدأت حكومة (2003 ـ 2010) بتحرير أسعار المحروقات بذريعة إيصال الدعم لمستحقيه، لكنها لم تمنح أجورا للعاملين بما يوازي هذا التحرير، بل إنها فعليا قامت بتخفيض القدرة الشرائية أكثر فأكثر، بدلا من أن تعيدها إلى مستوى القدرة الشرائية لرواتب ثمانينات القرن الماضي عندما كنا نستورد النفط والقمح والحمضيات والمحارم الورقية!! وبذريعة الندرة والشح والحصار، استمرت الحكومات المتعاقبة بتخفيض القدرة الشرائية للعاملين بأجر إلى حد لم يعد يطاق بالنسبة لملايين الأسر السورية، وجعل الكثير من الأكاديميين والمنظرين مقتنعين إن موارد الحكومة لا تسمح بزيادة الأجر إلى المستوى الذي يكفي متطلبات المعيشة والسكن.. فهل هذا صحيح؟ ما من مواطن إلا ويعرف إن الحكومات منذ عام 2010 عدلت أسعار منتجاتها وخدماتها مع كل تعديل لسعر الصرف، ووافقت على تعديل أسعار جميع منتجات الصناعيين والمستوردين حسب تكلفتها مع هامش مجز للربح، وبالتالي فإن هذه الحكومات لم تكن ستتكلف الكثير لو عدلت الأجور حسب سعر الصرف مثلما فعلتها مع مؤسساتها ومع المقتدرين وأرباب الصناعة والتجارة وحيتان المال! ترى لماذا كان العاملون بأجر الاستثناء الوحيد من “فعلة” الحكومات المتعاقبة؟
(سيرياهوم نيوز-البعث٢٦-١-٢٠٢٢)