آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » هندسة الفكر وتجسيد المعنى

هندسة الفكر وتجسيد المعنى

 

 

د. سلمان ريا

 

ليس الانقسام وليدَ الأفكار، بل هو مرآة لطُرُق تفكيرنا. فالأفكار، في جوهرها، لا تحمل بذور الفُرقة بقدر ما تكشف ملامح العقول التي أنتجتها. إن سطوع الاختلاف ليس مشكلة في ذاته، بل هو قنديل يضيء عتمات المنهج العقلي الكامن خلف الكلمات.

في أعماق كل رأي ينبض عقل يسير على خرائط معلنة وأخرى مستترة، والعقل — مهما تسامى في مدارج الذكاء واتسعت خزائنه بالمعرفة — يظل قابلاً للزلل، معرضاً للوقوع في متاهات الانحيازات التي تندس خفية في طيات تفكيره. إنها ليست طوارئ تطرأ على العقل، بل قَدَرٌ يسير معه حيثما ذهب، كظل لا يفارقه.

لذلك، ليس الحوار وحده كافياً، ولا يكفي أن نحشو العقول بالأفكار كما تُملأ الجرار بالماء. إن الفكرة التي تسكن عقلاً خاملاً تُشبه بذرة ألقيت في صخر، فلا هي تنبت ولا هي تموت. ما نحتاجه حقاً هو تأسيس جذور الفكر السليم، وتعليم الأجيال كيف يبنون أبنية العقل قبل أن يملؤوها بالسكان.

وهنا تتجلى العلاقة التي يغفل عنها كثيرون: العلاقة بين التفكير والتعبير، وهي ليست علاقة سطحية بين فكرة ولغة، بل هي امتداد فلسفي لعلاقة المجرد بالمحسوس، أو بتعبير أدق: علاقة الجوهر بالعرض، والماهية بالتجسد.

فالتفكير كيانٌ في عرش التجريد، لا يُرى ولا يُلمَس، أشبه بنبض يسري في عروق الوعي. أما التعبير فهو الجسد الذي يتكثف فيه هذا النبض، تماماً كما يتجسد الحلم في كلمة، ويتجلى الخاطر في جملة. فالتعبير هو صوت الفكر، وحضوره في العالم، كما أن الجسم هو مسرحُ الروح في الزمن والمكان.

لكنّ التعبير ليس محايداً. فكما يمكن للمرآة أن تشوه الصورة إذا كانت مكسورة، يمكن للتعبير أن يُضلّل إذا وُلِد من فكر معوج، أو من عقل تغمره الأمواج الانفعالية. فالتفكير المشوَّه يُفرز تعبيراً أخرق، والتفكير النقي يُولد تعبيراً صادقاً ينقل المعنى كما هو، بصفائه وتماسكه.

إننا لا نبني المجتمعات بالأفكار المعلّبة، بل نبنيها بالعقول التي تُحسن التفكير، وبالتعابير التي تُحسن التجسد. فالمشكلة ليست في تنوع الآراء بل في سطحية أدوات التفكير التي تُنتجها، وفي هشاشة التعبير الذي يحملها إلى الناس.

ما نحتاجه هو تربية العقول على صناعة الفكر كما يُصنع الذهب: بنار النقد، ومطارق المنطق، وميزان العقل المتزن. وحين يصبح التفكير ممارسة يومية والتعبير فناً صادقاً، نكون قد خطونا الخطوة الأولى نحو مجتمع لا تفتك به الاختلافات ولا تجرّه الشعارات إلى الهاوية.

فالتفكير هو الماهية، والتعبير هو الصورة، وبينهما تقوم الجسور التي تعبر بها الأمم من التيه إلى البصيرة.

(موقع اخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الطلاق القبيح بين ترمب وماسك

  ممدوح المهيني   في واحدة من فوراته العاطفية، كتب ماسك قبل أشهر على منصته «إكس»: «أحب ترمب كما يحب رجل معتدل رجلاً آخر». ومنذ ...