شفيق طبارة
منذ تأسيسه، ظلّ «مهرجان البندقية السينمائي» يتباهى بمكانته كأيقونة للفخامة والنجومية. هذا العام لم يخرج عن الصورة النمطية: نجوم هوليوود ظهروا على السجاد الأحمر، وتلألأوا على ضفاف القنوات، كأنّ شيئاً لم يتغير. لكن ما تغير فعلاً هو ما كان يُعرض على الشاشة، لا ما يُعرض أمامها.
الفن السابع في قلب الواقع: فلسطين في كل مكان
وراء واجهة البريق، كانت هناك نغمة أكثر توتراً، أكثر صدقاً، وربما أكثر ضرورةً. السينما لم تعد تكتفي باللعب في هامش الخيال، بل عادت لتقتحم قلب الواقع، وتطرح أسئلته الأكثر إلحاحاً. رئيس لجنة التحكيم، ألكسندر باين، حاول أن يضع حاجزاً بين الفن والسياسة، مصراً في بداية المهرجان على أنه معني بـ«السينما فقط». لكن الأفلام نفسها كانت ترد عليه، واحدةً تلو الأخرى، بأن السينما لم تعد تملك رفاهية الحياد.
وفي الخارج، لم يكن المشهد أقل صراحةً. الاحتجاجات اليومية، شارات فلسطين على صدور المخرجين، الهتافات التي اخترقت جدران القاعات، كلها كانت تقول إنّ الصمت لم يعد خياراً. البندقية، التي دائماً ما تباهت بحيادها، قررت أخيراً أن تنحاز. لا إلى طرف سياسي، بل إلى الحقيقة نفسها.
في 2025، لم تعد السينما تكتفي بالرمزية أو التلميح. لقد أصبحت أداة مواجهة، وصرخةً في وجه عالم يتهاوى. لم تكن الأفلام مجرد ترفيه، بل وثائق حيّة من خطوط التماس الإنسانية، تحاول أن تذكّرنا بأن الفن، حين يصدق، لا يجمّل الواقع بل يفضحه.
جيم جارموش: جائزة مستحقّة
«الفنّ لا يحتاج بالضرورة إلى الحديث عن السياسة كي يكون سياسياً، التعاطف هو أول خطوة نحو إصلاح المشكلات التي نواجهها»، بهذه الكلمات اختتم المخرج الأميركي جيم جارموش كلمته أول من أمس أثناء تسلّمه جائزة «الأسد الذهبي» عن فيلمه «أب أم أخت أخ».
بإخراج واضح ومباشر وبسيط، يروي جارموش في ثلاثة فصول ومشاهد مختلفة ما لا يزيد عن محادثة عائلية. ينخرط الفيلم في حوار داخلي مع كامل أعمال جرموش السابقة، فهو دائماً ما سعى إلى تفكيك عبثية الحياة اليومية.
المخرج الأميركي جيم جارموش حصد جائزة «الأسد الذهبي» عن فيلمه «أب أم أخت أخ»
المخرج الأميركي جيم جارموش حصد جائزة «الأسد الذهبي» عن فيلمه «أب أم أخت أخ»
لكن هنا، ينقل هذا السعي إلى قلب العائلة، محوّلاً علم الأنساب إلى مسرح وجودي. يتكون الفيلم من حوارات وفواصل وصمت، لكن الفارق الجوهري هذه المرة أنّ ما لا يُقال ليس مجرد سخرية، بل جرح مشتعل، ذاكرة مثقلة، وألم يرفض أن يُسمّى.
هند رجب… جائزة وتضامن عالمي
جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت إلى فيلم «صوت هند رجب» لكوثر بن هنية. هذه الجائزة لم تكن مجرد تكريم فنّي، بل بدت كأنها تصويت أخلاقي على موقف إنساني. رغم أهمية الفيلم كعمل فنّي سينمائي، جاءت هذه الجائزة في مشهد يتجاوز حدود السينما إلى فعل تضامن جماعي. هذه الجائزة بالذات لا تُمنح بناءً على معايير تقنية فقط، بل تعكس موقفاً من لجنة التحكيم تجاه ما يمثّله الفيلم. في سياق مهرجان طغت عليه السياسة، من تظاهرات تضامنية إلى تصريحات علنية من مخرجين ضد الحرب على غزة، كانت للجنة التحكيم كلمتها أيضاً.
أفضل إخراج لبيني سفدي
حصد المخرج الأميركي بيني سفدي جائزة أفضل مخرج عن فيلمه «آلة السحق». الفيلم هو الأول لبيني من دون شقيقه جوش، وقد اختار فيه أن يوثق الحياة داخل وخارج الحلبة للمصارع مارك كير (دواين جونسون)، الذي حقّق هنا نجاحاً كبيراً بعيداً من أدواره المعتادة في الأكشن والكوميدي.
لم تكن الأفلام مجرد ترفيه، بل وثائق حيّة من خطوط التماس الإنسانية
يقدّم الفيلم رؤية متماسكة لرياضة غالباً ما يُنظر إليها بتبسيط مخل على أنها مجرد عنف. الخوف، وهم السيطرة، الهشاشة، والرغبة في التحكم… كلّها عناصر يحقنها سفدي في قلب التيار السائد، ليُعيد تشكيل فيلم الرياضة القتالية بطريقته الخاصة، ويكشف عن أبعاد جديدة في أداء بطله الذي دائماً ما حُصر في أدوار نمطية.
يدفع سفدي بفيلمه إلى أقصى الحدود الجسدية والنفسية. الكاميرا هنا لا تراقب من بعيد، بل تقترب بشكل شبه فاضح من أجساد الممثلين، تلامسهم، تتنفس معهم، وتكاد تفضح هشاشتهم. عين سفدي مشاركة، متحركة، مهووسة، ومتلصصة. إنها عين لا تكتفي بالرصد، بل تتورط، تتدخل، وتعيد تشكيل المشهد من الداخل.
جائزة لجنة التحكيم: نابولي كما لم تروها من قبل
جائزة لجنة التحكيم الخاصة ذهبت إلى الفيلم الوثائقي «تحت السحاب» للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسّي. في الفيلم اختار روسّي أن يروي مدينة نابولي بطريقته الخاصة، بتاريخها وحاضرها. الفيلم الأبيض والأسود الشاعري مثل جميع أفلام روسّي الوثائقية، ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو اختيار مفاهيمي أيضاً، لقصيدة بصرية تتحوّل إلى علم آثار للزمن.
جوائز أخرى
أفضل سيناريو ذهب للفرنسية فاليري دونزيلّي وفيلمها «في العمل»، الذي يروي القصة الحقيقية لمصوّر ناجح تخلّى عن كل شيء ليتفرغ للكتابة، وليكتشف الفقر. هذا السرد الجذري، الذي يمزج بين الوضوح والسخرية الذاتية، يصوّر رحلة رجل مستعد لدفع الثمن النهائي من أجل حريته. أما جائزة أفضل ممثل، فذهبت للإيطالي الكبير توني سيرفلّو في فيلم «النعمة» لباولو سورنتينو.
في الفيلم، جسّد سيرفلّو بإتقانه المعتاد دور رئيس إيطالي خيالي. قال توني أثناء تسلّمه الجائزة: «حاولت أن أؤدي دوري بأفضل ما أستطيع ضمن حدود قدراتي» ثم أضاف: «أود أن أعبّر عن إعجابي، وإعجاب السينما الإيطالية، بأولئك الذين أبحروا بشجاعة نحو فلسطين، حيث تُهان الكرامة الإنسانية كل يوم».
ونالت جائزة أفضل ممثلة الصينية كزن زيلي عن فيلم «الشمس تشرق علينا جميعاً»، للمخرج الصيني كاي شانغجون. هذه الميلودراما اليائسة تتحدث عن رجل وامرأة في الصين المعاصرة. من المستحيل أن يجد المرء اهتماماً بفيلم لا يتطور، بل يندفع على منحدر طفيف بالكاد يُلاحظ. فيلم مرهق للمشاهد وللشخصيات أيضاً، وإن كانت هي متألقة.
ما شهدناه في البندقية هذا العام كان أشبه بنداء استغاثة، غرفة طوارئ ثقافية، محاولة أخيرة للتمسك بما تبقّى من معنى وسط عالم ينهار تحت وطأة التناقضات.
«مهرجان البندقية» في نسخته الثانية والثمانين، لم يكن مجرد حدث فنّي، بل تحوّل إلى مرآة تعكس هشاشة العالم، وتوتراته السياسية، وانقساماته الأخلاقية.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار