كتب إيشان ثارور تقريراً في صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية تناول فيه تعطّل سفينة الشحن العملاقة في قناة السويس ما أدى إلى انسداد غير مسبوق للقناة خلال السنوات الأخيرة.
وقال إنه في عصرنا الرقمي، قد ننسى مدى هشاشة الشبكات المترابطة التي تنسج عالمنا. ولكن هناك لحظات يرتجف فيها سن العجلة التي تحرك جهاز الرفع للاقتصاد العالمي، وندرك كيف يمكن أن تنحرف الأمور فجأة. وأضاف الكاتب أن هذا هو نوع ما حدث في قناة السويس، حيث وجدت ناقلة شحن بحجم ناطحة سحاب نفسها لا تزال محاصرة يوم الخميس. لقد خنقت بذلك شرياناً ضيقاً يشهد مرور نحو عُشر الشحنات العالمية.
وقالت شركة إنقاذ هولندية تعمل على تحرير السفينة، “إم في إيفر جيفن”، إن الأمر قد يستغرق “أسابيع” لسحبها من سقوطها على الشاطئ، وهو انسداد غير مسبوق في السنوات الأخيرة. وهناك ما لا يقل عن 150 سفينة تحاول العبور من آسيا إلى أوروبا، أو العكس، تواجه تأخيرات. فتلك الناقلات، التي تحمل كل شيء من النفط والأسمنت إلى السلع الاستهلاكية والحيوانات الحية، عالقة في ازدحام مروري يمكن أن تصل آثاره المتدرجة إلى كل ركن من أركان الكوكب.
كانت سفينة “إيفر جيفن”، التي تديرها شركة “إيفرغرين مارين” التي تتخذ من تايوان مقراً لها، متوجهة إلى هولندا يوم الثلاثاء عندما ضربت عاصفة ترابية، مما أدى إلى رياح شديدة وضعف الرؤية في ممر بطول 120 ميلاً من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط. ولا يزال من غير الواضح ما المشكلة التي حدثت بالضبط ودفعت السفينة للجنوح. فقد ألقى كل من مسؤولي هيئة قناة السويس وشركة “إيفرغرين مارين” باللوم على الرياح التي وصلت سرعتها إلى 30 ميلاً في الساعة. لكن هذا التفسير أثار بعض الشكوك، نظراً لأن السفينة تزن ما يصل إلى 220 ألف طن عند تحميلها بالكامل وتم بناؤها لتحمل هبوب رياح أقوى بكثير، بحسب “واشنطن بوست”.
وقال الكاتب إنه مهما كان السبب، فقد أطلقت محنة السفينة النكات على الإنترنت والانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب المشهد السيء الظاهر للسلطات المحلية التي تكافح لاستخراج مثل هذه السفينة الضخمة من القناة. لكن “الإغلاق الأخير يسلّط الضوء على المخاطر التي تواجهها صناعة النقل البحري حيث أن المزيد من السفن تعبر نقاط الاختناق البحرية بما في ذلك قناة السويس وقناة بنما ومضيق هرمز ومضيق ملقا في جنوب شرق آسيا”، حسبما ذكرت وكالة بلومبرغ نيوز. وأشارت الوكالة إلى كيفية تضاعف عبور الحاويات نقاط الاختناق البحرية خلال العقد الماضي.
وأضاف أن ذلك هو تذكير أيضاً بالتاريخ العميق والحيوي للقناة. فقبل وقت طويل من بناء القناة الحديثة في القرن التاسع عشر، كانت المنطقة التي تعمل فيها حالياً، جاهزة كي تكون نقطة عبور عبر القارات. لاحظ المؤرخ الفرنسي الكبير عن البحر الأبيض المتوسط، فرناند بروديل، كيف غمر البحر مضيق السويس المنخفض عدة مرات، مما حوّل إفريقيا إلى جزيرة.
في العصور الغابرة، رأى الحكام فائدة بناء رابط بحري لمراكب المجاذيف للانتقال من البحر الأبيض المتوسط، أو على الأقل من نهر النيل، إلى البحر الأحمر. ربما كان الأول هو الفرعون المصري نيكوس الثاني – بحسب المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت – الذي بدأ مشروعاً ضخماً لبناء قناة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد تقريباً. كتب هيرودوت: “أثناء حفر هذه القناة، فقد نيكوس مائة وعشرين ألف مصري”، لكنه أوقف العمل بعدما صوّر له أنه يعمل لصالح الحاكم البربري الذي سيأتي بعده. وقد جاء “البرابرة” الآخرون وأنهوا العمل على ما يبدو، بمن فيهم الإمبراطور الفارسي داريوس الأول ولاحقاً بطليموس من سلالة الملوك المقدونيين الذين تم تنصيبهم بعد وفاة الإسكندر الأكبر. لكن البحر الأحمر انحسر في القرون التي تلت ذلك، وتلاشت القناة القديمة، المسدودة بالطمي، في الصحراء. ومنذ العصور الوسطى حتى نهاية القرن الثامن عشر، فكر المخططون، من الحكام العرب إلى تجار البندقية إلى الباشوات العثمانيين، أو حتى حاولوا إطلاق مشاريع قناة جديدة، لكن محاولاتهم تعثرت جميعها.
لكن فكرة قناة السويس الحديثة اكتسبت زخماً من جديد بعد غزو القائد الفرنسي نابليون بونابرت لمصر في عام 1798. فهو كان يحلم ببناء ممر سريع إلى الهند، التي كانت بالفعل جوهرة الإمبراطورية البريطانية المزدهرة، وأرسل فريقاً من المساحين لرسم مسار قناة من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. لكنهم خلصوا بشكل غير صحيح إلى أن البحر الأحمر كان أعلى بمقدار 30 قدماً من البحر المتوسط (ارتفاعاتهما متشابهة نسبياً) وأن القناة قد تؤدي إلى حدوث فيضانات كارثية في دلتا النيل.
وبعد عقود، حصل الدبلوماسي الفرنسي السابق، المغامر فرديناند دي ليسبس، على تمويل من الحكومة الفرنسية وإذن من نائب الملك العثماني في مصر لشركته في قناة السويس، لبدء بناء ما سيصبح قناة السويس في عام 1859. وقام العمال بإزالة وتجريف ملايين الأقدام المكعبة من الأرض. وبحسب إحدى الروايات، أُجبر أكثر من مليون فلاح مصري على المشاركة في المشروع وهلك عشرات الآلاف، وأصيبوا بأمراض مثل الكوليرا في ظروف تشبه السخرة.
وقد تحسنت الظروف بعد تدخل السلطات المحلية وإدخال معدات صناعية ثقيلة. وفي عام 1869، تم تدشين القناة في حفل كبير أقامه الخديوي العثماني إسماعيل باشا. وبعد ست سنوات، مع إثقال كاهل مصر العثمانية بالديون، قام إسماعيل ببيع حصصه في شركة قناة السويس إلى الحكومة البريطانية، التي تحولت من كونها متشككة في المشروع إلى أكبر المستفيدين منه. وأدى افتتاح القناة إلى تصاعد ذروة الإمبراطوريات الأوروبية في آسيا وإفريقيا: تمكنت السفن الحربية وسفن الشحن التي تعمل بالبخار من تخطي الرحلة الطويلة حول رأس الرجاء الصالح. وأكد اكتشاف حقول النفط على طول الخليج الفارسي في أوائل القرن العشرين الحيوية الاستراتيجية للقناة بالنسبة للقوى الأوروبية.
وفي عام 1956، اختار الرئيس الوطني ذو الشخصية الكاريزمية جمال عبد الناصر تأميم ممتلكات شركة قناة السويس واستولت القوات المصرية على منشآتها. وأدى ذلك إلى حملة غزو مشتركة للقوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية في محاولة للإطاحة بعبد الناصر. لكنها تحولت إلى كارثة مذلة، مع حجب الولايات المتحدة الدعم عنهم وتحول الرأي العام العالمي بشكل حاسم ضد البريطانيين وحلفائهم. أعيد فتح القناة في عام 1957 ولكن تم إغلاقها مرة أخرى بعد عقد من الزمن بعد الحرب العربية الإسرائيلية (عام 1967). واستمر هذا الإغلاق ثماني سنوات. وفي عام 1975، أعلن الرئيس المصري أنور السادات عن استئناف أنشطة الشحن في القناة بإطلاق سرب من الحمائم.
نقله إلى العربية بتصرف: الميادين نت
(سيرياهوم نيوز-واشنطن بوست -الميادين27-3-2021)