فنزويلا سعيد محمد
بعد مهلة مدتها ثلاثة أيام فرضتها «المحكمة العليا» الفنزويلية، سلّم رئيس «الهيئة الوطنية للانتخابات»، إلفيس أموروسو، الأدلة التفصيلية التي طلبتها المحكمة، بما في ذلك سجلات التصويت وجداول التجميع. وأتى طلب «محكمة العدل العليا» (أعلى سلطة قضائية في البلاد) لمجمل الوثائق المتعلّقة بالعملية الانتخابية، في أعقاب طلب تَحقّقٍ دستوري تقدَّم به الرئيس نيكولاس مادورو، بغرض إزالة الشكوك المثارة حول نزاهة الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في الـ28 من تموز الماضي، وتدّعي المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة أنها زُوّرت على نطاق واسع. وكانت «الهيئة الوطنية للانتخابات» أعلنت فوز مادورو بنسبة 51.95% (6.4 ملايين صوت)، مقابل 43.18% (5.3 ملايين صوت) حصل عليها مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس، وهي نتيجة شكّك فيها – حتى قبل إجراء الانتخابات – تحالف المعارضة الذي يدعم غونزاليس، وتقوده الناشطة السياسية اليمينية المتطرّفة، ماريا كورينا ماتشادو.وزعمت المعارضة أن أرقامها الموازية للعملية الانتخابية، تشير إلى فوز حاسم لغونزاليس بأكثر من 70% من مجموع الأصوات، في 80% من مراكز الاقتراع التي تواجد فيها مراقبوها يوم الانتخابات، فيما امتنع مراقبو «الحزب الاشتراكي الموحد» الذي يقوده مادورو، عن نشر أرقامهم لتجنّب التشكيك فيها. لكن جهات حكومية أوضحت أن المعلومات التي نشرتها المعارضة وتعتمد عليها للتشكيك في شرعية التجديد لمادورو، مليئة بالتناقضات، «ما يشير إلى أنها مزوّرة». ومن جهتها، أعلنت «محكمة العدل العليا» أنها ستراجع البيانات، وستستجوب الجهات المعنية، بما في ذلك المرشحون العشرة والممثلون القانونيون لـ37 حزباً شاركت في الانتخابات، مؤكدة أن قرارها سيكون «نهائياً وملزِماً لجميع الأطراف»، غير أن المعارضة تجاهلت المحكمة بزعم أنها «جزء» من النظام البوليفاري الحاكم.
وفي خضم تلك التطورات المتسارعة، أحجم غونزاليس، المتواري عن الأنظار، عن حضور الجلسة عندما فتحت المحكمة قضيتها، رغم تحذير القاضية الرئيسية، كاريسيليا رودريغيز، من العواقب القانونية لعدم الحضور. وبدلاً من ذلك، أصدر مع ماتشادو بياناً ادعى فيه أنه «الرئيس الشرعي المنتخب لفنزويلا»، داعياً قوات الشرطة والجيش إلى اتباع أوامره. ورداً على بيان غونزاليس – ماتشادو، قال المدعي العام الفنزويلي، طارق صعب، إن مكتبه فتح تحقيقاً جنائياً ضدّهما بتهم تشمل «انتحال وظائف رسمية»، و«التحريض على التمرّد». ومن جهتهما، أصدر وزيرا الدفاع والداخلية الفنزويليان، فلاديمير بادرينو وريميجيو سيبايوس، بياناً مشتركاً رفضا فيه الدعوات «اليائسة والمثيرة للفتنة من المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة»، فيما تعهّد قادة القوات المسلّحة وقوات الشرطة بالحفاظ على السلم، وأكدوا من جديد دعمهم لمؤسسات البلاد الدستورية، وللرئيس المعاد انتخابه، مادورو.
بدت الخارجية الأميركية وكأنها تتنصّل من تسرّع الوزير أنتوني بلينكن في الاعتراف بغونزاليس رئيساً شرعيّاً لفنزويلا
وكان أنصار المعارضة أطلقوا موجة احتجاجات عنيفة في عدد من مدن البلاد، سقط فيها، وفقاً للتقديرات، عشرة قتلى، وأصيب أكثر من 100 من رجال الأمن بجروح. لكن السلطات نجحت على ما يبدو في استعادة الهدوء إلى الشوارع، بعد تنفيذ موجة اعتقالات واسعة ضدّ المحرّضين، في وقت نظّم فيه أنصار «الحزب الاشتراكي الموحد» مسيرات سلمية ضخمة في جميع أنحاء البلاد للاحتفاء بانتصار مادورو والتنديد بمن سموهم «عملاء واشنطن»، بما في ذلك تظاهرة رئيسية خرجت في العاصمة كاراكاس، وسارت من وسط المدينة وصولاً إلى قصر ميرافلوريس الرئاسي. ووفقاً لمادورو، الذي يعتبر جهود المعارضة المستمرة لرفض نتائج الانتخابات «محاولة انقلابية» تديرها الولايات المتحدة، فإن أكثر من ألفَي شخص اعتُقلوا للاشتباه في تورّطهم في محاولات منسّقة لإثارة الفوضى في الجمهورية.
وفيما كان حضور مادورو مرحاً في الحملة الانتخابية، فإنه بدا شديد الصرامة في أحاديثه التلفزيونية الأخيرة حول محاولات الأميركيين إسقاط نظامه عبر أدواتهم في المعارضة اليمينية. وهو قال، في برنامج تلفزيوني يخاطب عبره الشعب الفنزويلي: «إذا عاد هؤلاء الأوليغارشيون الموالون للاستعمار بحقدهم وأيديولوجيتهم الفاشية، فسوف يعيدون أيام (خوسيه توماس) بوفيس» – في إشارة منه إلى أمير الحرب خوسيه توماس بوفيس، الذي شنّ حرباً عرقية دموية ضدّ نضال الجمهوريين الفنزويليين من أجل الاستقلال في أوائل القرن الـ19 -، متعهداً بأنه سيتصدّى والشعب الفنزويلي لهم، وأنهم «لن يمرّوا». وتسعى المعارضة، من جهتها، وبمعاونة الإعلام العالمي، إلى تصوير ما يحدث على أنه حملة قمع؛ إذ دعت ماتشادو، عبر مقطع مصوّر نشرته على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى تنظيم احتجاجات للفنزويليين في جميع أنحاء العالم يوم الـ17 من آب الجاري، لدعم ادعاء غونزاليس الفوز في الانتخابات الرئاسية، لكن مراقبين قالوا إن هذه محاولة للهروب من حقيقة فشل الاحتجاجات داخل البلاد.
على أن ما لفت أخيراً، كان الموقف الأحدث للخارجية الأميركية التي بدت وكأنها تتنصّل من تسرّع الوزير أنتوني بلينكن في الاعتراف بغونزاليس رئيساً شرعيّاً لفنزويلا؛ إذ قال الناطق باسم الوزارة، ماثيو ميلر، في مؤتمر صحافي، إن إدارة الرئيس جو بايدن لم تعترف رسمياً بغونزاليس رئيساً، لكنه أكد أن بلاده تدعم جهود الوساطة الجارية من قِبَل البرازيل وكولومبيا والمكسيك، مشدداً على حاجة فنزويلا إلى «العودة إلى المعايير الديموقراطية»، من دون أن يصل إلى حدّ الدعوة إلى تسليم السلطة إلى غونزاليس. وكانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، أعلنت، في عام 2018، اعترافها بخوان غوايدو، زعيم المعارضة اليمينية حينئذ، رئيساً مؤقتاً لفنزويلا، بعد الإعلان عن التجديد لمادورو لولاية ثانية، وتبعتها في ذلك بريطانيا والاتحاد الأوروبي وعشرات الدول الأخرى. لكن تلك المحاولة فشلت في زعزعة النظام البوليفاري، وتلاشت مع تخلّي إدارة بايدن عن الفكرة برمتها. ويبدو أن أحدث تقييمات الولايات المتحدة للأوضاع على الأرض وجدت أن حظوظ غونزاليس في تولّي السلطة معدومة تماماً، وأنه سينتهي إلى أن يكون مجرد غوايدو ثانٍ.
سيرياهوم نيوز١_الاخبار