سعيد محمد
في سابقة لا يمكن وصفها إلّا بـ«بلطجة جوّية» تتجاوز كل الأعراف الديبلوماسية والقانون الدولي، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر منصّته «تروث سوشال»، إغلاق المجال الجوّي لفنزويلا «بالكامل». وهذا الإعلان الذي يذكّر بمراسيم القوى الإمبريالية في عصور الاستعمار، جاء في ظلّ تصعيد عسكري غير مسبوق في البحر الكاريبي، وتصنيف واشنطن هياكل الدولة الفنزويلية كمنظمات إرهابية أجنبية في إطار «الحرب على الناركو» (صناعة المخدرات)، في ما يبدو تمهيداً لحرب تستهدف خنق كاراكاس وإسقاط نظامها، ويمكن أن تشعل القارة اللاتينية بأسرها.
ودفع ارتفاع مستوى الغطرسة، بترامب إلى نشر رسالة إلى «جميع شركات الطيران والطيارين»، باعتبار سماء فنزويلا مغلقة. ومع أن الرئيس الأميركي لا يمتلك أيّ سلطة قانونية على الأجواء السيادية لدولة مستقلّة، إلّا أن «هيئة الطيران الفدرالية» الأميركية (FAA)، أصدرت تحذيرات أمنية في شأن تحليق الطائرات المدنية في المجال الجوي الفنزويلي، وهو ما دفع شركات الطيران العالمية إلى الخضوع، خوفاً من العقوبات. في المقابل، لم تقف كاراكاس مكتوفة الأيدي، إذ وصفت وزارة خارجيتها، تصريحات ترامب بأنها «تهديد استعماري» و«عدوان غير مبرّر» ينتهك ميثاق الأمم المتحدة. وكإجراء سيادي للمعاملة بالمثل، ألغت فنزويلا حقوق التشغيل لستّ شركات طيران كبرى تماهت مع التحذيرات الأميركية، كما أعلنت تعليقاً أحاديّاً لرحلات ترحيل المهاجرين التي كانت واشنطن تعوّل عليها، موجّهةً بذلك صفعة إلى برنامج الترحيل الجماعي الذي تتبنّاه إدارة ترامب.
وفي موازاة الحصار الجوّي، تنفّذ الولايات المتحدة ما تسمّيها عملية «الرمح الجنوبي» (Southern Spear) التي تبدو وكأنها قرصنة بحرية منظّمة؛ إذ تشير التقارير الميدانية إلى أن القوات البحرية الأميركية، التي حشدت أسطولاً ضخماً يشمل أكبر حاملة طائرات في العالم ومدمّرات وغواصة نووية، نفّذت أكثر من 21 غارة في الكاريبي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 83 شخصاً حتى الآن. وفي حين تقول الإدارة إن تلك القوارب «تابعة لمهرّبي مخدرات»، فإن التقارير – حتى منها الصادرة عن مؤسسات غربية – تصف ما يحدث بأنه «عمليات قتل خارج القانون». ونقلت الصحف عن مصادر استخبارية ما مفاده بأن أوامر شفهية صدرت عن وزير الحرب الأميركي، بيت هيغسيث، بقتل «كل مَن على متن القوارب»، وتنفيذ ضربات لاحقة لقتل الناجين في المياه.
ترامب وضع الجيش الأميركي، والمعارضة الفنزويلية اليمينية، ونفسه، في «مأزق استراتيجي»
وفي محاولة لتبرير بلطجتها تلك، لجأت واشنطن إلى تكتيكها التقليدي، المتمثل في شيطنة الخصم؛ إذ قامت إدارة ترامب بتصنيف الرئيس نيكولاس مادورو، وكبار مسؤولي الدولة، كقادة لما يسمّى «كارتل الشموس»، وذلك لشرعنة استهداف رأس الدولة الفنزويلية، وربّما تبرير عمليات اغتيال أو اختطاف، خاصة مع رصد مكافأة قدْرها 50 مليون دولار للقبض على مادورو، وأخرى بـ25 مليون دولار للقبض على وزير داخليته. ويأتي هذا فيما تتظاهر واشنطن بعدم إدراكها حقيقة أن الكوكايين يأتي بشكل أساسي من كولومبيا (حليفتها الوثيقة حتى وقت قريب)، وأن الفنتانيل «الذي يقتل الأميركيين» يأتي من المكسيك والصين.
وجدّدت تصريحات وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، التي لمّح فيها إلى أن «حدوث شيء ما في فنزويلا» قد يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط، كشْف حقيقة الحملة، بوصفها محاولة استعمارية كلاسيكية للسيطرة على أكبر احتياطي نفطي في العالم، إلى جانب ثروات فنزويلا الطبيعية الأخرى، وذلك لخدمة الاقتصاد الأميركي.
وفي خضم هذا التصعيد، تسرّبت أنباء عن مكالمة هاتفية جرت، الأسبوع الماضي، بين ترامب ومادورو، بحضور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو. ورغم أن بعض المحلّلين اعتبروا الاتصال بادرة للتهدئة، ومحاولة لتقديم «إنذار أخير» أو مخرج يحفظ ماء وجه واشنطن، إلا أن السياق العام يشير إلى تكتيك «المسار المزدوج» الذي يفضّله ترامب: التفاوض تحت النار، حيث استمرار التهديدات بشنّ عمليات برية – «قريباً جداً» – يجعل من هذه الديبلوماسية مجرّد غطاء لكسب الوقت أو تضليل الرأي العام، وخاصة أن الاستطلاعات تُظهر رفضاً شعبياً أميركياً واسعاً (70%) لأيّ حرب جديدة.
ويقول خبراء في شؤون أميركا اللاتينية، إن ترامب وضع الجيش الأميركي، والمعارضة الفنزويلية اليمينية، ونفسه، في «مأزق استراتيجي»؛ إذ إن منهجية «الضغط المتصاعد»، منذ أيلول الماضي، لم تؤدِ إلى انهيار الجيش الفنزويلي وفق ما كانت تأمله واشنطن، بل دفعت كاراكاس إلى تعزيز تحصيناتها (بما في ذلك نشر مصائد الدبابات على الطرق الساحلية) وتعبئة الميليشيات الشعبية. ويبدو الآن أن ثمة سيناريوَين رئيسَيين، كلاهما يمثّلان خسارة لواشنطن وحلفائها: الأول، أن تكتفي الولايات المتحدة بالاستعراض العسكري والضربات الجوية المحدودة في البحر من دون غزو برّي شامل، ثم تسحب قواتها تدريجياً. ويعني ذلك خروج مادورو من الأزمة أقوى من ذي قبل، وتوجيه ضربة إلى مصداقية واشنطن كقوّة مهيمنة في «حديقتها الخلفية»، فضلاً عن تدفيع المعارضة اليمينية، بقيادة ماريا كورينا ماتشادو، ثمناً باهظاً بعدما رهنت كل أوراقها بالتدخل العسكري الأجنبي، حيث ستجد نفسها معزولة داخلياً. أما في السيناريو الآخر، فيقرّر ترامب، مدفوعاً بصقوره (روبيو وهيغسيث) ولوبي النفط والغاز في واشنطن، تحويل التهديدات إلى غزو حقيقي، سواء بضربات جوية مكثّفة داخل الأراضي الفنزويلية أو إنزال بري محدود للسيطرة على حقول النفط. على أن هذا الغزو لن يكون نزهة، خصوصاً أن قوات الجيش الفنزويلي والميليشيات الشعبية استعدت لحرب عصابات طويلة الأمد.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
