يحاول بعض المعارضين السوريين تقديم ما يجري في بعض مناطق البلاد، ولا سيما في السويداء ودرعا، على أنه تجدّد لـ«الثورة» السورية، ولا سيما أن بعض أولئك المعارضين اغتنموا تلك التحركات لرفع أعلام المعارضة وشعاراتها. لكنّ الواقع يختلف كثيراً عن ذلك. يمكن لأي بلد في العالم أن يشهد تظاهرات مطلبية. وفي حالة سوريا التي تعيش أزمة اقتصادية عميقة، سببها الأول هو الحصار الغربي الخانق المفروض عليها، والثاني هو الفساد الداخلي، من الطبيعي أن تكون معاناة المواطنين مضاعفة. لكن هذه الحالة مقيمة في سوريا منذ سنوات، فلماذا الآن؟
تختلف جوهرياً الأجواء التي رافقت بداية أحداث عام 2011، عما يجري الآن. حينها، كان ما يجري يندرج ضمن مشروع كبير لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط، عبر ما سُمي «الربيع العربي». ولم يطل الوقت كثيراً حتى أخلت التظاهرات الساحة للسلاح والمقاتلين الآتين من كل أصقاع الأرض، والمدعومين بتحالف عالمي واسع، للانخراط في حرب كانت نتيجتها تدمير البلاد، ووقوع مئات آلاف القتلى، وتهجير الملايين داخل البلاد وخارجها. إلا أن تلك الحرب لم تُسقِط النظام، وتراجعت حدّتها إلى أن خمدت إلى حدّ بعيد، وعاد الكثير من المقاتلين إلى حيث جاؤوا وبقيت آلاف قليلة منهم في مخيمات معزولة بصفة معتقلين، وبؤرة واحدة في إدلب تجمّع فيها مقاتلون غادروا أماكن أخرى في سوريا. وحتى هؤلاء الأخيرون جرى تحييدهم، وكان من شأن تقدم المحادثات مع تركيا إيجاد تسوية لهم.

ذلك المشروع سقط، وتخلّت عنه غالبية الدول التي كانت منخرطة فيه، واتّجه كثير منها إلى استعادة العلاقات مع دمشق تدريجياً، وصولاً إلى عودة الأخيرة إلى «جامعة الدول العربية»، الأمر الذي بات بالإمكان معه تلمّس نهاية لهذه الحرب.
ما يجري اليوم لا يعدو كونه ضغطاً على النظام السوري وعلى حليفيه الروسي والإيراني تحديداً، في محاولة لإحداث تغيير في موقف موسكو في حرب أوكرانيا التي لم يحقّق فيها الغرب أي شيء يُذكر، وفي الوقت نفسه محاولة دفع طهران للحصول على تنازلات سواء في المفاوضات النووية، أو على شكل تخفيف للضغط المتصاعد على العدو في الضفة الغربية، ولا سيما أن أبواب الضغط على طهران في أماكن أخرى، كالداخل الإيراني أو لبنان، مغلقة. ويعتقد الأميركيون أن مفتاح حلول أزمات كثيرة في المنطقة، ومنها لبنان، يكمن حالياً في سوريا، وأن هذا النوع من الضغط قد يدفع طهران إلى التنازل باعتبار أنها المعنيّة الأولى بإمداد سوريا بالمساعدات.
هي محاولة جديدة من واشنطن وحلفائها لاستخدام الساحة السورية، وهذا ما يفسر تعدّد الوسائل التي تُستخدم فيها، من التحرّكات العسكرية الأخيرة في البادية ومنع دول كالسعودية والإمارات من تطوير العلاقات مع دمشق، وخصوصاً مدّها بالمساعدات التي كانت الأخيرة وُعدت بها (منها 5 مليارات دولار من الرياض)، وصولاً إلى إيقاظ المعارضة التي كانت قد دخلت في سبات منذ سنوات.

لا يبدو أحد من عرب الخليج بمن في ذلك قطر مستعداً لضخ مليارات جديدة في حرب محكومة بالفشل

لكنّ أسباباً كثيرة أخرى تدفع إلى الاعتقاد بأن الأميركيين ليسوا في وارد إشعال حرب كبيرة جديدة ضد دمشق وحلفائها، ولا سيما في حالة إيران التي يطمح الأميركيون إلى الحصول على تنازلات منها، أكثر منه إلى خوض مواجهة مفتوحة معها، باعتبار أن الكثير من ساحات المواجهة بين الجانبين هادئة الآن، والعراق هو المثل الأوضح. يضاف إلى ما تقدّم أن خارطة التظاهرات الحالية وزخمها، يختلفان جوهرياً عن تلك التي وقعت قبل 12 عاماً، ولا سيما أن البداية والزخم هذه المرة كانا في محافظة السويداء، التي لم تكن جزءاً من الحرب السابقة، بل كانت جزءاً أساسياً من مواجهتها، وهو ما ينطبق كذلك على بعض مناطق اللاذقية.
السؤال الأهم والذي يتوقّف عليه مدى استمرار التظاهرات الحالية، هو هل السوريون الذين كانوا مؤيّدين للمعارضة في الحرب، ما زالوا على موقفهم، أم أن كثيرين منهم ندموا على ما جرى، لا حباً بالنظام، وإنما تعلّماً من الكارثة التي حلّت ببلادهم ودفعوا ثمنها غالياً؟ هنا لا مجازفة في القول إن النظام استطاع أن يضيف إلى مؤيديه، أو المحايدين، بعد فشل إسقاطه، كتلة وازنة ممن كانوا مؤيدين للمعارضة في بداية الحرب، وبالتالي لا تتمتع المعارضة بمختلف ولاءاتها، بالقوة الكافية، لا شعبياً ولا عسكرياً، لإحداث أيّ تغيير.

أحد أهداف الضغط الأميركي هو دفع النظام في دمشق إلى قبول تسوية مع أنقرة بالشروط التركية، وهو ما يعني حكماً إضعاف النظام الذي لا يبدو في وارد التنازل حالياً، ولا سيما بعد عودة الرئيس رجب طيب إردوغان إلى اصطفافه الأول مع واشنطن.
لكنّ النظام يمكنه أن يكون مرناً هنا، كما كانت تركيا مرنة في نقل رهاناتها. فالعلاقة مع بلد جار كبير كتركيا، حيوية جداً بالنسبة إلى سوريا، على المستوى الاقتصادي في المقام الأول. وحتى إذا كان من الطبيعي لدمشق أن تتعامل مع أنقرة بتوجّس، إلا أنه لا يمكن الاكتفاء بانتقاد دورها السيّئ في الحرب. والتاريخ القريب والبعيد شهد علاقات متقلّبة مع دمشق، انتهت بحلول سلمية. ومن تلك التقلبات ما حدث عام 1998 عندما وصل البلدان إلى حافة الحرب، وحينها اختار حافظ الأسد الحل السياسي، على رغم التاريخ العدائي بينهما، بسبب لواء إسكندرون أو الدور التركي في التحالف الغربي في حينه. انتهى الأمر حينها بتوقيع اتفاقية أضنة الأمنية بين الجانبين. وتركيا من الدول التي يمكن الرهان على تغيّرات فيها. وحتى العراق، بحكومته الحالية التي تعمل لتحسين الروابط مع سوريا، ما زالت العلاقات معه دون المستوى الضروري.
لكن على رغم كل ذلك، وعلى رغم أن ثمّة جانباً مطلبياً حقيقياً في بعض التظاهرات، يتمثّل في الاعتراض على الأوضاع الاقتصادية القاسية التي تعيشها سوريا، والتي يتسبّب الفساد بجزء منها، إلا أنه من الممكن أن يجري استغلالها من قبل قوى لا تزال تريد فرض أجندة معيّنة في سوريا، وهذا بالضبط ما يحصل حالياً.

لذلك، وفي ضوء الحقائق الجديدة، يمكن للنظام مواجهة ذلك الهجوم المتجدّد بأدوات أخرى مختلفة وأقل كلفة عليه وعلى البلاد، مثل التظاهرات المضادة التي صارت تحدث بالفعل، وصولاً إلى تسجيل مواجهات بين متظاهرين مختلفين في حمص مثلاً.
لا جدال في أن الرئيس السوري، بشار الأسد، أقوى بكثير الآن بعد تغلّبه على المعارضة في الحرب بدعم من حلفائه الذين بدورهم أصبحوا أقوى أيضاً. ولذلك، لا أفق أمام التحركات الجديدة، بغضّ النظر عن الشعارات والرايات التي ترفعها، والمناطق التي تجري فيها. والأرجح أن الأمر سيخفت من تلقاء نفسه أو أن تدخلاً ما اقتصادياً وسياسياً من دول متحالفة مع النظام سيساعد في إنهائها، خاصة إذا وصل ما يجري إلى تهديد ما حقّقته دمشق والحلفاء خلال السنوات الماضية.
وإذا كان المقصود بما يجري الضغط على النظام وحلفائه، فإن أحداً في هذا العالم لا يستطيع تحمّل كلفة تمويل حرب جديدة في سوريا، في وقت لا يبدو فيه أحد من عرب الخليج، بمن في ذلك قطر، مستعداً لضخ مليارات جديدة في حرب محكومة بالفشل. وهل تتحمّل أوروبا التي يبدو في الوقت الراهن أنها محكومة بدفع إتاوة إلى أميركا، موجة جديدة من اللاجئين؟