أعلنت “جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا، السبت، وثيقة بعنوان “العيش المشترك”، وقدّمتها كرؤية تنظيمية لكيفية إدارة التعدّد الديني والسياسي والاجتماعي في الدولة الجديدة. جاءت بلغة مدنية موسّعة من دون ردّ مباشر، لكنها تحمل إشارات سياسية واضحة، إذ تقترح انتقال النقاش من منطق الاصطفافات إلى منطق القواعد، وتعرض تصوّراً لمجال عام تُدار فيه الخلافات بالتعاقد لا بالهيمنة، وتُضبط فيه العلاقة بين الدولة ومكوّناتها عبر مؤسسات وقوانين لا عبر الولاءات.
ويطرح إصدار الوثيقة سؤالاً عملياً عن موقع الجماعة في المشهد الذي تسعى إلى تنظيمه: هل تُقدَّم بوصفها رأياً سياسياً من داخل فاعلٍ اجتماعي، أم بوصفها إطاراً تصوّرياً يفترض للجماعة دوراً مرجعياً؟ لا تُفصح الورقة عن مستوى التشاور مع أطراف أخرى، ولا تتضمن مراجعةً ذاتية لدور الجماعة في مراحل سابقة، وهذا الغياب يترك مساحةً لتأويلاتٍ متباينة بشأن ما إذا كانت الجماعة ترى نفسها طرفاً من أطراف الأزمة أم مراقباً يقدّم توصيات عامة.
تنطلق الوثيقة من توصيف بلد خرج من ديكتاتورية طويلة ويحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على التفاهم والتعاقد، لا على الإقصاء أو الاستقواء بالخارج. وتؤسّس لذلك بإطارٍ أخلاقي – ديني يربط وحدة الأصل الإنساني بفكرة التعارف والبرّ والعدل والتعاون، ثم تنقل هذا التأصيل إلى مفهوم “التعاقد” المستلهم من صحيفة المدينة بوصفه أساساً لمواطنة تضبط علاقة الدولة بمكوّناتها.
وتُسنِد الوثيقة للدولة أدواراً محدّدة في الحماية القانونية للحقوق والحريات، وإنفاذ العدالة الاجتماعية والاقتصادية والانتقالية، وإطلاق مبادراتٍ للسلم الأهلي على المستويين المركزي والمحلي، وبناء شراكاتٍ مع منظمات المجتمع المدني، إلى جانب مراجعة تربوية تُدخل قيماً مشتركة إلى التعليم والثقافة. وفي المقابل، تمنح المجتمع المدني وظيفة التنفيذ من القاعدة: بناء الهوية المشتركة عمليّاً، تعزيز الحوار الوطني، التوعية الأسرية المبكرة، وكسر ثقافة التحريض والانغلاق عبر مبادراتٍ إعلامية وفنية وثقافية.
على مستوى القواعد الدستورية التي تقترحها للحياة العامة، تصف سوريا المنشودة بأنها دولةٌ ديموقراطية تعددية تقوم على المواطنة وسيادة القانون وفصل السلطات، تتداول السلطة عبر انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، وتكفل حرية الاعتقاد وتجريم خطاب الكراهية، وتُتيح المشاركة السياسية على أساس الكفاءة ضمن حريات عامة وفردية ينظّمها الدستور. وتضيف إلى ذلك متطلبات الحكم الرشيد في إدارة القوة العامة والمال العام ضمن رقابة برلمانية وقضائية فعّالة، مع تأكيد مبدأ المسؤولية الفردية الذي ينفي المؤاخذة الجماعية، وعصمة دماء وأموال جميع السوريين، وحرية التنقّل، ومشاركة الناس في تقرير العلاقات المصيرية.
وصدرت الوثيقة في مناخ سياسي متحرك شهد سجالاً علنياً حيال موقع الجماعة عقب دعوةٍ لحلّها، وجرت فيه أول انتخابات برلمانية بعد سقوط النظام السابق، كما ترافق مع حراك خارجي للرئاسة الجديدة. لا تقدّم الوثيقة نفسها رداً مباشراً على أي من هذه الوقائع، لكنها عملياً تعيد صياغة سؤال المرحلة: ليس “من يبقى ومن يُحلّ”، بل “ما القواعد التي تحكم المجال العام، ومن يلتزم بها؟”.
عملياً، تُعدّد الوثيقة ملفات تحتاج إلى إعادة نظر، منها: موقع المؤسسة العسكرية وحدود تدخلها وخضوعها للرقابة البرلمانية، احتكار الدولة لاستخدام القوة وفق القانون، الحريات العامة والفردية وتجريم خطاب الكراهية، وأدوار المجتمع المدني والتعليم في ترسيخ قيم المواطنة.
يمنح هذا البناء للوثيقة وظيفة مزدوجة. من جهة، يعيد تقديم الجماعة في موقع فاعل يسعى إلى العمل داخل “المساحة الوطنية المشتركة” بمرجعيات دستورية وإجرائية، لا بوصفها طرفاً يتشاجر على هويةٍ خاصة. من جهة ثانية، يضع أمام جميع الفاعلين معايير قابلة للقياس: إلغاء المحاكم الاستثنائية، تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية على المؤسسة العسكرية، حماية حرية الاعتقاد إلى جانب تجريم الكراهية، وترسيخ المسؤولية الفردية بما يقطع الطريق على منطق الثأر.
في المحصلة، لا تُقرأ الوثيقة بمعزل عن سياقها؛ فهي تصدر في لحظة يُعاد فيها تشكيل المشهد السياسي من دون أحزاب ولا حياة سياسية. والسؤال هنا ليس فقط عن المضمون بل عن جدوى هذا النوع من المبادرات: هل تكفي لإعادة تثبيت موقع الجماعة؟ أم أن المعادلة الجديدة تُرسم من دونها؟ الجماعة تعرض تصوراً مدنياً وتطلب شراكة، لكن السلطة تبدو ماضية في هندسة المجال العام وفق شروطها. الوثيقة لا تحسم هذا الجدل، لكنها تضعه على الطاولة.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار