| سعيد محمد
الدراما الوثائقية من شبكة «شوتايم» عن عمليّة اغتيال الشهيد عماد مغنيّة لم تقدّم شيئاً على مستوى توثيق الحدث. تعثّر في المسار الدرامي وسذاجة في الحوارات، وضعف في أداء معظم الممثلين، وفقدان المصداقيّة التاريخيّة… حتى بدا العمل منتجاً دعائيّاً مكرّس لتشويه السمعة الشخصيّة للقائد العربي الكبير ووصم بيئته لا أكثر. «أشباح بيروت» محاولة لتملك السردية التاريخيّة عن لحظة المقاومة سقطت تحت ثقل طموحاتها الذاتية، وفشلها في الخيال والإقناع والتوثيق معاً
لعقود طويلة، ظلّ عماد مغنيّة (1962 – 2008)، أحد ألمع القادة الثوريين العرب في التاريخ، شوكةً في حلق المخابرات المركزيّة الأميركيّة والموساد الإسرائيلي. انكبّت أجيال من جواسيس الجهازين وعملائهم في شرق المتوسط على تعقّبه بعدما نسبت إليه مجموعة من أقسى الضربات التي تعرضت لها القوات الأميركية والإسرائيلية بما في ذلك تصفية العديد من كبار ضباط المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط، قبل أن يتولّى قيادة العمل العسكري لـ «حزب الله»، الظاهرة الأبرز في تاريخ تجارب المقاومة منذ انتصار فيتنام في السبعينيات من القرن الماضي.
لعقود طويلة، ظلّ عماد مغنيّة (1962 – 2008)، أحد ألمع القادة الثوريين العرب في التاريخ، شوكةً في حلق المخابرات المركزيّة الأميركيّة والموساد الإسرائيلي. انكبّت أجيال من جواسيس الجهازين وعملائهم في شرق المتوسط على تعقّبه بعدما نسبت إليه مجموعة من أقسى الضربات التي تعرضت لها القوات الأميركية والإسرائيلية بما في ذلك تصفية العديد من كبار ضباط المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط، قبل أن يتولّى قيادة العمل العسكري لـ «حزب الله»، الظاهرة الأبرز في تاريخ تجارب المقاومة منذ انتصار فيتنام في السبعينيات من القرن الماضي.
تحفَّظ «حزب الله» عن كشف تفاصيل عمليّة الاغتيال، ونفى الإسرائيليون وقتها مسؤوليتهم، فيما تظاهر الأميركيّون بالصمم، وإن عبّرت مصادر متعددة المستويات عن حبورها بالتخلّص ممن اتهموه بقتل أكبر عدد من الأميركيين في المرحلة بين حرب فيتنام وحادثة الحادي عشر من سبتمبر. إلا أنّه بعد رصد تحركات القوات الإسرائيلية خلال وقت تنفيذ الاغتيال ومعلومات متقاطعة تسرّبت لاحقاً عبر جريدة «واشنطن بوست» المقربّة من غرف صنع القرار الأميركي و«صنداي تايمز» البريطانية المعروفة باطلاعها على شؤون الموساد وأيضاً اعترافات جانبيّة لجاسوس فلسطيني-أردني قبضت عليه السلطات السوريّة، بدأت تتكوّن صورة أوضح عن ضخامة العملية التي نفّذت، والجهات المشاركة فيها. لكن القصّة الكاملة ما زالت حبيسة الأدراج في لانغلي وتل أبيب (وعمّان)، وعلى الأغلب لن يفرج عن الوثائق المتعلقة بها قبل ثلاثين أو خمسين عاماً.
لذلك، عندما أعلنت «شوتايم» الأميركيّة عن وثائقي/ درامي تعتزم إنتاجه عن عملية الاغتيال بتعاون جهات أميركية وإسرائيليّة، ذهب بعضهم إلى التفاؤل بالكشف عن تفاصيل لم تكن معروفة من قبل، وخصوصاً أنّه فُهم حينها بأنّ الصيغة التي اعتمدت للعمل تتضمّن شهادات من ضباط سابقين في الأجهزة الاستخباراتية في البلدين، والتعاون مع أطراف لبنانيّة (مطّلعة)، وأن الشبكة وعدت «بنهج سردي مبتكر معزّز بالبحث الصحافي العميق والعناصر الوثائقية».
لكن كم كانت خيبة أمل المتفائلين بما سمّي لاحقاً بـ «أشباح بيروت» كبيرة، مرّتين: الأولى عندما أعلنت عن أسماء الفريق. إذ كلّف بالإخراج الأميركي غريغ باركر الذي كان قد أنجز وثائقي «المطاردة» عن كتاب بروباغندا رخيص بدا واضحاً أنّه يروّج لأسطورة العداء الأميركي لأسامة بن لادن، الذي لطالما كان ضابط الارتباط في المؤامرة الأميركية الباكستانية السعوديّة المشتركة لإسقاط الحكم الوطني في أفغانستان، واستبداله بمجاهدي لانغلي (النسخة الأوليّة من الدواعش). ذلك الوثائقي، كان كارثة فنيّة رغم كل الدعم الذي تلقّاه باركر من الأجهزة الأمنية الأميركيّة، وبدا أقرب إلى استعراض لوظائف فريق طويل عريض قيل لنا إنّه كان متفرغاً لمطاردة بن لادن لأكثر من عقد.
أما صانعا الفيلم، فهُما الإسرائيليان آفي يسخاروف وليئور راز القائمان على إنتاج «فوضى» (أربعة مواسم على نتفليكس)، المسلسل الدرامي السخيف الذي يحكي دفق انتصارات متخيّلة لفرق المستعربين في الضفة الغربية وغزّة (وضاحية بيروت الجنوبيّة في الموسم الأخير)، ويتعاطاه الإسرائيليون كمعالجة نفسيّة لأزمتهم الوجوديّة في الصراع الذي لن يتوقف مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد استعان صانعا الفيلم باللبنانية جويل توما ككاتبة سيناريو ومنتجة تنفيذية مشاركة. وتوما لمن لا يعرفها كانت زوجة المخرج اللبناني المُتصهين زياد دويري عملت معه على إنتاج أفلام إسرائيلية، وعداؤها للمقاومة قديم. أضف إلى ذلك طاقماً من الممثلين، إسرائيليين وأميركيين وعرباً، أبرزهم فلسطينيو الـ 48 (أمير خوري في دور مغنيّة شاباً وهشام سليمان في دوره وقت الاغتيال)، ولبنانيو المهجر (دينا الشهابي في دور لينا عسيران عميلة المخابرات الأميركيّة)، والمغاربة (خالد بن شقرا) وممثل إيراني الأصل (قام بدور المسؤول الإيراني أصغري)، فيما جرى التصوير في المغرب، حيث الأبواب مشرّعة للإسرائيليين وأفلامهم، وبتمويل إماراتي سخيّ. أما مروحة المقابلات الواقعية مع مسؤولين (رفيعي المستوى) من وكالة المخابرات المركزية والموساد، فضمّت حنين غدّار، المهرّجة من «معهد واشنطن» (الاستخباراتي)، التي تقف على يمين صقور العداء لـ «حزب الله» في الإدارة الأميركيّة، وتعمل كنائحة عبرانيّة مستأجرة للتخويف من المقاومة. مع فريق عمل مماثل يقطر سمّاً، تخرج كل موضوعيّة من الصورة تماماً، وتتوقّع ـــ مُصيباً ــــ بأنّك ستحصل على وجبة ثقيلة من البروباغندا وتشويه السمعة وتزوير التاريخ التي يدفعها محض العداء المريض تجاه قائد عربيّ أثخن في الأميركيين والإسرائيليين كما لم يفعل أحد من قبل.
بعد هذه الخيبة الأولى، جاءت الثانية لدى عرض العمل الذي أطلق في أربع حلقات أسبوعية على شبكة «شوتايم» في الولايات المتحدة وشبكة «يس» الإسرائيلية، فيما ستبدأ منصة «باراماونت بلس» قريباً بعرضه في المملكة المتحدة وأوروبا.
تبدأ كل حلقة بتخلّ صريح عن المضمون: «هذا سرد خياليّ لأحداث تم البحث بشأنها بعمق». سريعاً سنجد من المادة المعروضة، سواء دراميّة أو شهادات موثقة، أنّ ما يقدّم بالفعل ليس إلا تخرّصات توما الاستشراقيّة حول دوافع مغنية ورجاله لمقاومة الاحتلال: نقضي جزءاً كبيراً من الحلقة الأولى فيما مغنية يقنع أحمد قصير بالضغط على زر التفجير ليذهب إلى الجنة، وأنّه إن فعل، سوف يوزع اسمه على الصحف وتعلق صوره على الجدران. علماً أن اسم أحمد قصير لم يعرف قبل مرور ثلاث سنوات على عمليته البطولية. تصوّر توما هؤلاء كمهووسين عاطفيين، معزولين عن بيئتهم، ومدفوعين حصراً بأوامر (وأموال) تأتي من طهران.
إلى جانب شخصية مغنية ومحيطه المباشر، نغرق مع صفّ طويل من الشخصيات على الجانبين الأميركي والإسرائيلي ـــ إضافة إلى اللبنانيين بمن فيهم نبيه بري ــ الذين يتتابعون في الظهور من دون أن يحصل أيّ منهم على وقت كاف لتقديم أي عمق إنساني أو تاريخي وراء اندفاعهم المحموم لإسقاط مغنيّة، مع إضافات باهتة بلا توقيت مفهوم لشهادات الخبراء والمعنيين، فبدت كفقاعات تائهة من التوثيق الفارغ على سطح دراما ضحلة. وحتى «الأبطال» الذين يتم تلميعهم ويفترض بنا أن نتعاطف مع حربهم الدائمة ضد «أخطر إرهابيّ في العالم» مثل عميل الموساد تيدي (الممثل الإسرائيلي إيدو غولدبرغ) وعميلة المخابرات الأميركية لينا (دينا الشهابي)، فإن الطرح لا يسمح بتطوير فهمنا لدوافعهم أبعد من صيغة أننا «يجب أن نعثر على هذا الرّجل».
لعلّ فشل «أشباح بيروت» متأت من محاولته أن يكون أشياء كثيرة في وقت واحد، سياسي وتاريخي واجتماعي وسايكولوجيّ وفني، فيفشل فيها جميعاً. لا يوضح للمشاهد المناخ العام لخلفيات الصراع العربي الإسرائيلو-أميركي في شرق المتوسط التي قادت «الأبطال» و«الأشرار» إلى الصدام في هذه اللحظة من التاريخ، ويسقط في فخ تلفيق الأحداث المعروفة، ما يفقده كل مصداقية حول الأحداث غير المعروفة، وتنحسر طاقته تماماً عند معالجة الجوانب الثقافية لبيئة الأحداث على الجانبين، ويتناثر كما غبار عندما يحاول الإساءة لمسلك مغنية الشخصي في أذهان محبيه (نوادي ليل، وعشق محرّم، وسعي لإبادة العبران بالسلاح الكيميائي…). يعجز العمل عن الاحتفاظ بخط توتر درامي ممتد من الحلقة الأولى إلى الأخيرة لينتهي بالاغتيال ـــ المتوقع سلفاً ــ من دون إفادة من اللحظة الحاسمة لا درامياً ولا وثائقياً، بل استدعاء لحنين غدّار التي لا تخفي شماتتها بمقتل مغنية وتردد التفاهة المجترة نفسها التي سمعناها منذ حرب أفغانستان، فغزو العراق، فالعدوان على ليبيا، فالحرب على سوريا، عن الجمهور العربيّ البائس الذي يرى صورة بطله المقتول على صفحة القمر. حسناً، عماد مغنية كان عندكم وحشاً، كما كان لينين وستالين وكاسترو وغيفارا وهوشي منه ووديع حداد، لكن إذا لم يقدّم «أشباح بيروت» معلومات عن الطريقة التي قتلتموه بها، ولم يفسّر الخلفية التي دفعت شاباً عربياً شديد الدماثة واللطف والذكاء مثله (جيرانه في دمشق ظنوا أنه كان مجرد سائق في السفارة الإيرانية) كي يتحوّل إلى جنرال عسكريّ يخوض مواجهة قاسية مع الإمبراطوريّة الأميركيّة بعظمتها فيأتي برأسها إلى الأرض، فما هو المبرر كمشاهد للتسمّر أمام شاشة «شوتايم»؟
مع فريق عمل مماثل يقطر سمّاً، تخرج كل موضوعيّة من الصورة تماماً
وفوق ذلك، يبدو العمل متردداً في تحديد جمهوره المخاطب. فلا هو مقنع للجمهور الغربي الذي ــ على جهله بالمنطقة وتفاصيل الصراعات فيها ـــ لم تعد تقنعه الثنائيّات: صيغ الكابوي الخيّر مقابل الهندي الأحمر الشرير، الغربي (بذيله العبراني) مقابل الشرقي (العربي والمسلم)، ولا هو كاف لإرضاء غرور الجمهور الإسرائيلي الذي يجد كل يوم أنّ تغييب «الشبح» مغنية – غدراً وهو الذي أذلهم في كل الساحات والمعارك – لم يلغ عشرات الآلاف من أشباح آخرين ربّاهم الشهيد وصاروا الرقم الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة المنطقة الأصعب، ولن يكون بأي حال كافياً لزعزعة مكانة القائد صانع التاريخ في زمان التخلي والذّل، ناهيك بالطبع بتعاسة المنتج كعمل دراميّ محض في أجواء أعمال الجاسوسية والعمل السري التي تقدمت عشرات الأميال عن المكان الذي وقف عنده «أشباح بيروت».