«وحيداً ستمضي.. عندما يصيرُ العمرُ خلف الضَّباب.. لن يبقى بعد الغياب.. إلا عَوِيلُ الرِّيحِ الموجِعُ.. وظلالُ يديك على الجدار.. وطيفُ غمامةٍ.. ظلَّلتْ عُرْيَكَ عندَ الهجيرْ..».
هذه الشذرات للشاعر منذر عيسى مختارة من مجموعته الشعرية (وحيداً ستمضي)، التي تضم ( 96) نصاً نثرياً كانت في ميزان النقد في المركز الثقافي العربي في طرطوس بمشاركة ثلاثة أدباء: هم أحلام غانم، عصام حسن، نجود حسين.
البداية كانت مع الشاعرة أحلام غانم، إذ أكدت أن الشاعر عيسى من الشعراء الذين واكبوا حركة الحداثة الشعريّة المعاصرة، ورسّخ مفهوم قصيدة النثر في إبداعاته الشعريّة.. وترى غانم أن العنوان ساهم في توضيح دلالات النص، واستكشاف معانيه الظاهرة والخفية، «فهو الموجّه الأكثر أهمية من بين أدوات التوجيه النصي، وكثيراً ما يقال «الكتاب يعرف من عنوانه»، وترى أنَّ كلَّ نصٍّ فكري إبداعي من نصوص المجموعة يُشكِّل عتبةً عنوانيةً موازيةً إزاء النصِّ الإبداعي الأصلي، وكلَّ عتبةٍ بارزةٍ مُصاحبةٍ لبنية النصِّ المُرسل تحمل هاجساً فكريَّاً قلقاً، ونسغاً روحياً نابضاً بحرية الجسد.
فالمتأمل في عمق المجموعة يرى أنّ الشاعر قد تَشَبَّثَ بالإنسانيِّ الحميْمِ، وَبِالحِسِّيِّ، وَبالذّاتِ الإنسانيَّةِ، حتّى في أقصى تداعياته الخريفية، وأوراقه القديمة في نَبْرَةٍ شِعْريَّةٍ، أكثَر ذَاتيَّةً وَإنسانيَّةً، وَبهذَا استطاعَتْ قصيدته النثرية أن تُشَكِّلَ مَعَالمَ طقسِها المستحيلِ وَشَكْلِها الجديدِ وَمَلامحِهَا الجماليَّةِ.
وبينت أن الشاعر قطع شوطًاً كبيراً باتجاه النّضج الجمالي والتّنوع في الأساليب والتّقنيات، وانشغل بسؤال المعنى والاشتغال على القضايا الكبرى عبر التناص حيناً والتأمل الفلسفي حيناً آخر، إذ يقول:
«في فضاء الزُّرقة يخلُدُ المعنى
النجومُ مصابيحُ تنيرُ دروب السالكين
أنا أحَدُ المُريدينَ يا سيّدي
وبي ولهٌ شديدٌ
وكُلُّ الساعاتِ عكسَ الوقتِ تدورُ
هلْ مِنْ سبيلْ»
أما الشاعر عصام حسن فتوقف عند البنية الفكرية والصوت الناطق في المجموعة، وعند بعض التقنيات الفنيّة، مؤكداً أنَّ الصوتَ الناطِق في «وحيداً ستمضي» هو صوت الإنسانِ المتأمِّل الرائي المُشبَع بالحكمة والدِّراية، فهو المُخوَّلُ بقراءة رسائل الطبيعة، والإنصات إلى همسها الموحي العميق الحكيم، ومع هذه الحكمة والتأمُّل والرؤية يتوحَّدُ المُبدِعُ مع موضوعاته ويخالطها في تجربةٍ عميقةٍ تَستمطِرُ الخبرةَ والكشفَ، إذ يقول في نصّ «عُري الروح»: أرتبكُ في حضرة نورٍ بهيّ.. ويرمّمُ عريَ روحي الطارئ ملاك للحقيقة.. خلف حجابٍ ينتظر.
فالنصُّ تجربةٌ حياتية عميقة تُختَصر الحياة بترميزٍ مُحكَم.. والبعدُ الوجوديُّ الإنسانيّ حاضِرٌ في الخطاب ينظرُ ويعايشُ ويحلّلُ بقلبِ مُتصوّفٍ حكيم.. يحاولُ اختصارَ الوجودِ بكلماتٍ ويرسمُ طريقَ الخلاص بألوان ثابتةٍ لها امتدادٌ أخلاقيّ ومعرفيّ من دون الانضواءِ تحت رايةِ توجُّهٍ فلسفيّ أو فكريّ ضيقٍ إلا رايةِ الإنسان الباحث عن الحكمة.. والذي يسبق الوقتَ ويقفُ على مشارفِ الحقيقة الكليِّة. وبيّن أن صوتُ الأنا الظاهرُ في المجموعة يمثّلُ ضميرَ الإنسان وجوهرَهُ ورؤاهُ مُنفلِتاً من الزّمانِ والمكان ومُتحرِّراً من أيِّ حدودٍ موصوفةٍ مَنظورة، وهذا يتطابق مع مفهوم الرّائي من دون الغفلةِ عن التورُّط في نسغِ الحياة وتفاصيلها وجسدها ودمِها.. هذا الصوتُ يمثِّل الفطرةَ الجَمعيَّةَ، وهو مفتاحُ النّصوصِ إلى عقولِ وقلوبِ القُرَّاء.
بدورها، أكدت الشاعرة نجود حسين أن من امتيازات المجموعة كان إغواء العنوان الذي يحمل على جدل طويل هل فعلاً سأمضي وحيداً؟! ففي التأكيد على حتمية الرحيل يبقى المؤلم أن تكون وحيداً، و في عمق العنوان دعوة: ستمضي؟ حتماً.. لكن وحيداً، وتعتقد جازمة، أن عنوان المجموعة الذي لا يحمله أي نص فيها، يجعل في كل المجموعة دعوة للحب كي لا نرحل من دون بصمة نتركها على من في هذه الحياة. .
ولأن الوقت لا يكفي لتقديم قراءة وافية- حسب حسين- اكتفت بمقاربة نصين من المجموعة هما« سرير القصيدة»، و«خربشات وأوراق قديمة» وأرادت من هذه المقاربة أن تقول: إن قيمة العمل الأدبي تبلغ مداها حين تمتلك قدرة التعبير عنك والارتقاء بك وتصويب مسارك أو فكرك، أو تحثك على ألا تمضي وحيداً، فإن لك على الأرض ظلاً.
سيرياهوم نيوز 4_تشرين