يعد الملاريا واحداً من أكثر الأمراض فتكاً في العالم، إذ يودي بحياة أكثر من 600 ألف شخص سنوياً، معظمهم من الأطفال في أفريقيا. هذا المرض الطفيلي، الذي ينتقل عبر لدغات أنثى بعوضة الأنوفليس، لا يزال يشكل تهديداً كبيراً رغم التطورات الطبية. في العقود الماضية، سعت المنظمات الصحية والعلماء لتطوير استراتيجيات مبتكرة لمكافحة انتشاره، بدءاً من المبيدات الحشرية والناموسيات المشبعة بالأدوية، وصولاً إلى اللقاحات الحديثة.
لكن… ماذا لو أصبح الإنسان هو من يبيد هذه الحشرات بدلاً من أن يكون ضحيتها؟ من هنا تأتي الفكرة الجديدة والمذهلة: تسميم البعوض بدم الإنسان نفسه! قد يبدو الأمر من أفلام الخيال العلمي، لكن العلماء يدرسون هذه الفكرة المبتكرة وغير التقليدية لمكافحة الملاريا. إنها تعتمد على عقار معروف يستخدم لعلاج أمراض وراثية نادرة، لكنه فاجأ الخبراء بأنه قادر على قتل البعوض خلال ساعات من تناوله وجبة دموية من شخص خضع للعلاج.
في دراسة نُشرت في مجلة Science Translational Medicine، وجد الباحثون أن عقاراً يسمى نيتيسينون (Nitisinone)، يمكن أن يجعل دم الإنسان ساماً لدرجة أن البعوض الذي يتغذى عليه يموت في غضون ساعات قليلة. المثير في الأمر أن تأثير الدواء يستمر لفترة تصل إلى 16 يوماً بعد الجرعة الأولية، ما يجعله سلاحاً محتملاً في معركة مكافحة الملاريا.
ليس علاجاً، لكنه قد يكون الحل!
رغم أن نيتيسينون لا يمنع العدوى بالملاريا بحد ذاته، إلا أن قدرته على قتل البعوض قبل أن يتمكن من وضع بيضه قد تقلّل أعداد الحشرات الناقلة للمرض بشكل كبير، الأمر الذي يساعد في كسر سلسلة انتشار العدوى. تماماً مثلما تعتمد بعض اللقاحات على “مناعة القطيع”، فإن هذا الدواء يعتمد على فكرة القضاء على البعوض في المجتمع بدلاً من حماية الأفراد بشكل فردي.
لكن، هل يمكن لهذا الحل القضاء تماماً على الملاريا؟ بالطبع لا. يشدّد الباحثون على أن هذه التقنية لن تكون بديلاً للطرق التقليدية، مثل الناموسيات المشبعة بالمبيدات الحشرية، والأدوية الوقائية، واللقاحات، لكن ربما تصبح أداةً إضافية فعالة، خاصة في المناطق التي أصبح فيها البعوض مقاوماً للعلاجات الأخرى.
دواء بماضٍ مثير ومصير غير متوقع!
الغريب أن نيتيسينون لم يُطوَّر في الأصل لمكافحة البعوض، بل كان مستوحى من نبات القارورة الأسترالي الذي يُعرف بإفراز سموم قاتلة. كان الهدف منه استخدامه كمبيد للأعشاب، لكنه لاحقاً أثبت فعاليته في علاج أمراض وراثية نادرة مثل تيروزين الدم، وهو اضطراب يجعل الجسم غير قادر على استقلاب حمض أميني معين.
منذ أن وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الدواء في عام 1992، أصبح علاجاً ضرورياً لإنقاذ الأطفال الذين يعانون من هذا المرض، رغم أنه ليس حلاً مثالياً بسبب بعض آثاره الجانبية.
لكن في عام 2016، توصل باحثون برازيليون إلى اكتشاف مذهل: الحشرات التي تتغذى على الدم مثل البعوض، تعتمد على التيروزين بشكل كبير، وإذا تم تعطيل هذه العملية، فإنها تموت سريعاً! هذه المعلومة ألهمت فريقاً في كلية ليفربول للطب المداري للبحث فيما إذا كان نيتيسينون يمكن أن يكون قاتلاً للبعوض أيضاً، وكانت النتائج مدهشة!
هل نصبح سُمّاً متحركاً؟!
مع هذا الاكتشاف، قد يصبح البشر أنفسهم أداة لمكافحة البعوض، لكن يبقى السؤال: هل سنكون مستعدين لتناول جرعات من هذا الدواء لجعل دمائنا قاتلة لهذه الحشرات؟
حتى الآن، لا تزال هذه الفكرة بحاجة لمزيد من الأبحاث، ولكنها قد تمثل أحد أكثر الحلول ابتكاراً لمكافحة أحد أخطر الأعداء الطبيعية للبشرية. فهل سيكون هذا الدواء هو المفتاح لإنهاء الملاريا؟ أم أن البعوض سيثبت مرة أخرى أنه خصم لا يُستهان به؟!
أخبار سوريا الوطن١ الوطن١-وكالات-النهار