المشهد الأشدّ وجعاً، كان في حضورها… السيدة فيروز، التي لم تكن فقط الأم العظيمة، بل الناجية من ثلاث فواجع: عاصي، ليال، وزياد.
بوجع على وسع المدى، ودّع لبنان ابنه المختلف، الموسيقار والمفكر والمسرحي زياد الرحباني، في مشهد قلّ أن يشهده بلد غارق في أزماته، لكنّه تذكّر فجأة أن هناك من يليق به الوداع الكبير.
وفي مفارقة تُشبه أسلوبه في تحويل الألم إلى معنى، عاد زياد الرحباني إلى المحيدثة، البلدة الجبلية الوادعة، ليُوارى في ثرى ربوعها، في اليوم نفسه الذي شهد انطلاقته المسرحية الكبرى عام 1974، حين كتب، لحّن، وأخرج مسرحيته الغنائية الأولى “سهرية” التي عُرضت في 28 تموز/يوليو من ذاك العام على ملعب النادي الرياضي في قلب البلدة.

وبين التاريخين، عمرٌ من الموسيقى والمسرح، من السخرية الجارحة والحبّ المتعب، من التمرّد الفني والحنين السياسي، ومن الوجع الشخصي الذي لم يفارقه حتى لحظة الرحيل.

من أمام مستشفى خوري في شارع الحمراء، حيث عاش زياد حيّزاً من حياته، انطلقت رحلته الأخيرة بين الناس الذين طالما أحبّهم، وكتب لهم، وضحكوا معه، ثم بكوا لأجله.

موكب نعشه شقّ الشارع على وقع التصفيق، الزغاريد، والورود التي نُثرت على الجثمان، وكأنّ لبنان قرّر أن يشكره كما يليق به، ولو متأخراً.
لم تكن مجرد جنازة، بل استعادة لذاك الشريط الطويل الذي اسمه “زياد”.

كان الوداع شعبياً ورسمياً، شارك فيه الفنانون، السياسيون، الفقراء، الشعراء، العابرون، والمريدون… الجميع سلك طريق الحمراء نحو كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة – بكفيا، قبل أن يُوارى الجسد في حديقة منزل العائلة في الشوير.

لكن المشهد الأشدّ وجعاً، كان في حضورها… السيدة فيروز، التي لم تكن فقط الأم العظيمة، بل الناجية من ثلاث فواجع: عاصي، ليال، وزياد.

جلست السيدة فيروز بصمتٍ في الكنيسة، بالوشاح الأسود والنظارة السوداء. وخلف الزجاج الداكن، كان وجع السنوات يُقيم، وكانت تحاول التماسك بجسارة أمٍّ لا تريد أن تسقط في العلن.
للمزيد: أحمد مدلج… رفيق آلام زياد الرحباني وحارس أسراره
كان زياد بكرها، فرحتها الأولى. وفي صمتها اليوم، كأنها تُشاهد شريط الذاكرة: خطواته الأولى، دندناته، تمرده، حنانه، وجمله التي تحولت إلى أغانٍ.
لم تكن علاقتهما مجرد أم وابن. كانت حكاية لحنٍ طويل: كتبه بأنفاسها، وغنّته هي بوجعه.
لم تصف فيروز زياد بكلمة علنية، لكنها منحته أغلى ما لديها: صوتها، كأنها تقول للعالم: “هذا ابني، فاستمعوا إليه بصوتي”.
من “سألوني الناس” إلى “كيفك إنت” و”أنا عندي حنين”، فتح زياد لها باباً جديداً، إنسانيّاً، صادقاً، جعل من صوتها مرآة للوجع والعتاب.
لكن اللحن لا يموت. وزياد الذي ملأ الدنيا ضحكاً وعبثاً وهزلاً عميقاً، أبكى الناس أخيراً. ودّعوه من الحمراء إلى بكفيّا كما أحبّ، بلا بهرجة، بلا صفقات، بلا خطابات رنّانة. ودّعوه كما ودّعهم في أحد نصوصه: “اسهروا كما تسهر الحيطان، لا تتكلموا عن شيء، وانظروا بعضكم إلى بعض… علّ الوجوه تتحادث”.

في كنيسة رقاد السيدة في بكفيا، احتُفل بالصلاة لراحة نفسه، بينما كان مرافقه الوفيّ أحمد مدلج، يرافق الغياب كما رافق أيام التعب، من دون أن ينطق، من دون أن يبيع لحظة واحدة من وجع زياد أو صمته.

في وداعه، حضرت خلفيات حياة مليئة بالتناقضات: ابن فيروز وعاصي، صاحب الموهبة المبكرة، الكاتب، الشاعر، الممثل، المُلحن، الناقد، الساخر، السياسي بلا حزب، الماركسي الرومانسي، العاشق للوطن حدّ المرض.
وفي أيامه الأخيرة، خفت صوته كثيراً. حمل جسده المرض، والاكتئاب، وتشمّع الكبد، وقبلها جميعاً، حمل خيبات كثيرة. انقطع عن الطعام، ووهنت مقاومته، وكأنّه تعب من الصراخ في وادٍ لا يسمع.
ورغم التراجع الصحّي، لم يتراجع أثره. منذ مسرحيته الأولى، إلى آخر نوتة موسيقية، بقي زياد حاضراً كمزيج من تشي غيفارا وكارل ماركس، كصوت من لا صوت لهم، كبسمة سخرية فوق وجه بلد يبكي.
فهل قتله المرض؟ أم أن الحزن، والوطن، والأمل المكسور هي التي تواطأت عليه؟
زياد نفسه كتب ذات مرة: “حائرٌ أنا… بين أن يبدأ الفرح وألّا يبدأ… مخافةَ أن ينتهي”.
لقد بسط الفلسفة، وجعلها خبزاً للفقراء. مزج موسيقى الشرق بأنفاس الجاز، وأدخل البلوز إلى الأزقة، وطرح الأسئلة الساخرة على خشبات المسرح، بدل أن ينتظر جواباً.
ومن رحم السيدة فيروز، إلى أرض بكفيّا، إلى حضن عاصي، ختم زياد الرحباني مسيرته كمن يمشي إلى نفسه، أخيراً، ليستريح.

ترك لنا زياد الحبر، والمسرح، والموسيقى، ووسام الأرز من رتبة كومندور وعبارة “إيه في أمل”… وقال: الباقي عليكم.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _النهار اللبنانية