لأنّ الكتابة وطن ومنفى، فقد اتّبع خليل سمعان نمطاً جديداً من الأدب القصصيّ، وهو حصيلة إدراجه ضمن كتاب واحد، أدباً نقديّاً سلوكيّاً، أضاء على الفساد في الإدارة، وما يدور في دهاليز المكاتب والدوائر، وأدباً ريفيّاً اجتماعيّاً.
عمِل الكاتب مدرّساً وصحافيّاً لامعاً. وبحكم عمله امتلك اطّلاعاً وافراً على مجمل الحقائق عن الفساد الذي يدور في مكاتب تخليص المعاملات. وإن كانت قصصه عن الشأن العام قد خلت من أسماء الفاسدين، بحكم حصولها في زمن ليس بقريب، لكنّها أشارت بمدلولاتها بحكايا مباشرة، حصلت وما تزال تحصل كلّ يوم. وستبقى هذه القصص وثيقة سلوكيّة عن موظّفين خدعوا ويخدعون العالم بتفانيهم في خدمة المواطنين.
خليل سمعان، كتب عن الريف وساكنيه، كما كتب عن العائلة بأسلوب يشبه الوطن. أن يكتب المؤلّف قصّة عن سيرة حياته العائليّة، وجور الدهر عليه، فتلك ظاهرة أدبيّة تنمّ عن صدق. إذ يبقى الكاتب يحصد في حقول الغير، ليتجنّب الخصوصيّة كي يبعدها عن النقد. لكنّه دوّن القصّة الأولى من الكتاب بتلك الجزئيّات الصغيرة، التي لا ينتبه إليها من لم يعش ما عاشه، وتلك شمائليّة تشير إلى عشقه لقريته وحبّه لوالديه.
تدرّج سمعان من الكلام عن والده، وإطار مسؤوليّته، وكدحه، وركّز بطريقة المخرج السينمائيّ على سعيه لتأمين كتب ودفاتر وأقلام الكاتب عندما كان ولداً. كما ركّز على لهفة والدته عليه وعلى اخوته، وكيف اقترحت سرّاً على زوجها، بيع خاتم زواجها لتأمين المطلوب، وكيف كانت تعمل في الحقول وتعاني من التعب لتأمين الرغيف. فسلب منّا متعة الاسترسال في القراءة لمعرفة النهاية، بعد أن باع والده خاتمي الزواج العائدين له ولزوجته من أجل هذه الغاية. وكيف استرجعهما خليل عندما أينع.
تحسّ وأنت تقرأ هذه القصص، كأنّك تعيش مع الكاتب، بخاصة إذا كنت ابن قرية وفقير الحال كما حدّث. أو إذا علقت بمتاهة دائرة حكوميّة من أجل تخليص معاملة، وتجنّبت معقبي المعاملات. أو إذا افترى عليك أحد عناصر قوى الأمن الذي يعمل درّاجاً، ويبحث عن الرشوة، مفتّشاً عن سبب واهٍ يجرّ صاحب السيارة إلى دفع الخوّة: “إنّه (مدعوم) وعلى علاقة جيّدة بالمسؤول الأمني غير اللّبناني في منطقته”. (صفحة 113)
قيمة كلّ أدب مثالي، أنّه يستلب منك شغفك، ويأخذك بصوره، ويضمّك إلى حكاياه من دون أن تدري. وكم في الكتاب من صُوَرٍ حصلت مع العديد من القرّاء، وجاءت صادقة العبارة والاستعارة، على نسق من الروعة، ومتانة السبك، ووضوح المعاني. فمن لم يشبّه والدته بشموليّة الزمن وسحر الطبيعة كما فعل سمعان، عندما شمّ في أمّه عبير الفصول الأربعة؟ :”رُحت أغرق في صدرها، أتقوقع تحت ذراعيها، وأشمّ فيها، وفي ثيابها، عبير الفصول الأربعة، وعبير الأمومة الخالصة تُسبل على روحي وعلى قلبي الأمل والرّجاء، إنّها تهب باستمرار من دون أن تنتظر شيئاً في المقابل”. (صفحة 31)
ظهر الوطن الذي أحبّه خليل سمعان والذي يرغب العيش في ربوعه، من خلال الحديث عن الماضي الذي به نحيا في ذكرياتنا. كما ظهرت الغربة عن الوطن الذي أحبّ، من خلال سرده لقصص واقعيّة عن الرشوة والفساد، حصلت في الدوائر الحكوميّة، فإذا أُخبر بها مواطن من الغرب اعتبرها قصصاً خياليّة.
اخبار سورية الوطن 2_النهار اللبنانية