| حسين ابراهيم
يوماً بعد يوم، يتكشّف المزيد من التفاصيل حول ما حدث في العراق مطلع الأسبوع الماضي. وفي آخر الروايات التي تَسوقها مصادر مطّلعة لـ«الأخبار»، يتبيّن أن أنصار زعيم «التيّار الصدري»، مقتدى الصدر، حاولوا إحكام سيطرتهم التامّة على «المنطقة الخضراء»، مقرّ الحُكم في بغداد، لكنّ هذه المحاولة باءت بالفشل، بعدما هدّدت بقيادة التيّار إلى صدام مع «الحشد الشعبي» لن تأتي نتائجه في صالح الأوّل. ولعلّ هذا الفشل، إلى جانب الوساطات الداخلية والخارجية، هو ما حدا بالصدر إلى الخروج في اليوم التالي، وإصدار أمر صارم لأنصاره بالانسحاب من «الخضراء» بعد أن وبّخهم على حمل السلاح، والذي يفيد مطّلعون على ما جرى، بأنه حصل بإيعازٍ من بعض قادة «الصدري»
قبل أسبوع من الآن، كاد العراق ينزلق إلى فتنة شيعية – شيعية، قبل أن يعود منها بسرعة فاجأت الكثيرين، حين خرج زعيم «التيّار الصدري»، مقتدى الصدر، في مؤتمر صحافي ليأمر أنصاره بالانسحاب من كلّ ساحات التظاهر فوراً، بعد ظهور سلاح بين أيديهم، وسقوط العشرات من القتلى والمئات من الجرحى في ظروف لم تتّضح بالكامل حتى الآن. موقف الصدر هذا بدا خارج سياق الأحداث، إلّا أن رواية المطّلعين قد تُسلّط بعض الضوء على أسبابه الخفيّة. تقول هذه الرواية إن الخطّة الأساسية لـ«التيّار الصدري»، بعد إعلان الصدر اعتزال السياسة في بيانه الشهير الذي وَجّهه إلى المرجع كاظم الحائري، وتضمَّن مخاطَبة أنصاره بالقول: «أنتم في حلّ مني»، كانت تقضي بأن يُحكِم هؤلاء سيطرتهم على «المنطقة الخضراء» التي تضمّ مقارّ الرئاسة والحكومة والسفارات، وعلى مراكز المحافظات، وربّما التفاوض مع الطرف الآخر بعد ذلك، مِن موقع مَن أمسك بمقارّ الحُكم وعطّل أي إمكانية لممارسته سواءً من قِبَل حكومة تصريف الأعمال أو الرئيس المنتهية ولايته أو مجلس النواب الذي يَعتبره «الصدريون» غير شرعي أيضاً، نظراً إلى فشله في الالتزام بالمُهل الدستورية لانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة.
اعتزال السياسة، والذي لم يحصل فعلياً ولن يحصل على الأرجح، كان بذاته تدبيراً سياسياً، وهو أحد التكتيكات المعروفة لمقتدى، والهدف منه، كما أوضح بيان الرجل بهذا الخصوص، هو ترْك الشارع على غاربه من دون مرجعيّة للتحرّك. ولكن ماذا لو أن التحرّك نجح في إسقاط «المنطقة الخضراء»، فهل كان الصدر سيبقى معتزلاً، أم أنّه كان سيعود إلى فرض الشروط التي وضعها، وأبرزها حلّ مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة، من موقع القوّة، وربّما رفع السقف أكثر؟
ويُضاف إلى السؤال المتقدّم آخر أكثر إشكالية، هو: هل كان الصدر أو مَن أمر أنصاره بحمل السلاح على تنسيق مع جهات خارجية؟ تَصعب الإجابة هنا، لكن المرجّح أن التيّار اصطدم بعدم وجود رغبة لدى الأميركيين في إشعال اقتتال واسع في العراق في هذا التوقيت بالذات، لأن ذلك كان سيفاقم مشكلة أسعار النفط المرتفعة عالمياً بسبب الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا والعلاقة الصعبة مع السعودية والإمارات. إلّا أن التحريض السعودي والإماراتي الواضح في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، يوحي بوجود رغبة جامحة لدى قيادتَي البلدَين في تشجيع الاقتتال الشيعي – الشيعي. والبلدان يتدخّلان في الشأن العراقي، ولهما أذرع وعلاقات داخل كثير من الأحزاب العراقية، ولن يكون مفاجئاً كثيراً أن تكون لهما علاقات داخل «االصدري» نفسه، ولا سيما أن زعيم التيّار لا يخفي رغبته في تحسين العلاقات مع الرياض وأبو ظبي بالذات.
اعتزال السياسة، والذي لم يحصل فعلياً ولن يحصل على الأرجح، كان بذاته تدبيراً سياسياً
السؤال الثاني المهم، هو هل ربح الصدر سياسياً ممّا جرى، أم خسر؟ لا تمكن، في الإجابة عن هذا السؤال، إلّا ملاحظة أن الصدر الذي أحسن خلال الأشهر الأخيرة استخدام لغة الشارع، ما زال متفوّقاً على قوى «الإطار التنسيقي» في الشعبيّة، بسبب غياب أيّ مشروع للحُكم لدى الأخيرة، يعالج المشاكل الحياتية القاسية التي يواجهها العراقيون، فضلاً عن وقوف بعضها في موقف المتّهَم بالمسؤولية عن ما وصلت إليه الأوضاع في البلد، على رغم أن الجميع متورّط في الفساد، بمَن فيهم «التيّار الصدري» الذي ما زال حتى الآن يحتلّ مواقع كثيرة في الإدارة العراقية، ويطمح إلى حُكم العراق.
على أيّ حال، الرواية الآنفة الذكر للأحداث تدلّ على أن العراق، وإن نجا من الاقتتال داخل المذهب الواحد، إلّا أنه دخل دوّامة جديدة من الصراع السياسي أكثر تعقيداً ممّا قبلها. وعليه، فإن الأسابيع المقبلة لن تكون خالية من التوتّر، كما لن يكون سهلاً التوصّل إلى حلول للأزمة، ما سيعيد الأطراف في النهاية إلى الشارع. ولعلّ القرار الذي يُتوقّع أن تُصدره «المحكمة الاتحادية العليا» غداً في دعوى «التيار الصدري» المطالِبة بحلّ مجلس النواب، سيشكّل محطّة من المحطّات على هذا الطريق.