الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » وقائع وانطباعات من زيارتي لإيران على مدى أربعة أشهر ضمن رحلتي من دمشق إلى موسكو على ظهر جواد عام 2019 (الحلقة الأولى)

وقائع وانطباعات من زيارتي لإيران على مدى أربعة أشهر ضمن رحلتي من دمشق إلى موسكو على ظهر جواد عام 2019 (الحلقة الأولى)

 

 

كتب:عدنان عزام

 

شغلت ايران حيزا كبيرا من الاهتمام العالمي طيلة السنوات الماضية ..فمن موالٍ الى معارض و من معجبٍ الى نافر وناقد

..اراء و مواقف حيال هذه الدولة( القارة )على امتداد العالم

لكن الامر ياخذ منحى اكثر تطرفا في المواقف عندما يتعلق الامر بالعرب اذ نجد بينهم موالين على طريقة “ظالما او مظلوما” ومحبين في كل الحالات او كارهين و معارضين و لو مدت لهم ايران يداً من عسل

اليوم وبعد الاتفاق مع ناشر ورئيس تحرير موقع”سيرياهوم نيوز”الصديق هيثم يحيى محمد ابدأ من اليوم بنشر كل ما سجلته في كتابي “دمشق موسكو عالم جديد” خلال عبوري للاراضي الايرانية و الذي استغرق اربعة اشهر حيث التقيت خلالها بعشرات المواطنين الايرانيين و المسؤولين و على راسهم المرشد الاعلى علي خامنىئي الذي تشرفت بلقائه في حوزة فلسطين وسط العاصمة طهران مع تأكيدي انني سجلت مشاهداتي بموضوعية مطلقة و دون احكام مسبقة

وفيما يلي الحلقة الأولى:

 

*الدخول إلى إيران

 

فجأة ننتقل من عالم إلى آخر .

ثلاثة رجال ينتظروننا على مدخل الحدود الإيرانية ( مدينة مهران ), السيد عزيزي يمثل الأمن , و رضا , يمثل اتحاد الفروسية الإيراني في منطقة مهران و معهما المترجم , كرّار , حضروا لاستقبالنا بالتنسيق مع ديلارام اسماعيلي مسؤولة العلاقات الخارجية في اتحاد الفروسية الإيراني ,

التي أتواصل معها منذ أن كنت في بغداد عن طريق الفيس بوك .

يسلّمون علينا بحرارة , و يأخذون الخيل إلى مكان لتستريح و تأكل , و يدعوننا إلى أحد المكاتب لتناول الشاي الإيراني الخفيف , بعكس الشاي العراقي الثقيل !, كلُّ شيء يوحي بالهدوء و السكينة , و ما هي إلا دقائق

حتى ينجزون معاملة دخولنا .

نلتقط صورة بجانب لوحة كبيرة للإمام الخميني و الإمام الخامنئي , و نسير حوالي الساعتين في الليل حتى مدينة مهران الحدودية , لننام بهدوء و سكينة في منزل موظف أمن الحدود السيد عزيزي .

 

● الخميس / 11 / تموز 2019

نشرب الشاي مع عزيزي و شقيقه , و بصعوبة أفهمُ ما يقولان بسبب حاجز اللغة , فأستعن

ببرنامج الهاتف الجوال لتلبية رغبتنا الجامحة بتبادل الحديث معهما , ثم نشدُّ الرحال ,

و نعبر المدينة التي لا أعرف شيئاً عنها إلا ما أخبرني به في الأمس المترجم كرّار , و هو وجود كهف جميل اسمه كهف الجنة , الذي قال لي عنه : إن الآلهة أبدعته و جعلت المياه العذبة تتدفق منه .

أشعر بغربة عن هذا المكان , أو لأقل إنه يبدو جديداً عليّ و لم أرَ مثله من قبلُ ! .

لكنني لست خائفاً , بل أشعر انّ السكينة تملأ قلبي , و بحدس الرحالة الذي أمضى عمره يتنقل

في هذه المعمورة , أنظر في كل الاتجاهات لأكتشف كل شيء في هذا العالم الجديد …..

الطريق نظيفة , محاطة بالأشجار , تنحني وتتعرج , و من بعيد أرى السماء و كأنها متكئة

على الأرض , لا بل أرى جبالاً عالية صعدت لتلامس السماء , هي جبال زاغروس , التي قرأنا عنها في كتب الجغرافيا و التاريخ , هذه السلسلة التي يبلغ طولها 1500 كم , و هي تسمية إغريقية تعود إلى زمن الدولة السلوقية و معناها ( العاصف أو ذو العواصف ) , و هي تفصل بين إيران و العراق و يبلغ ارتفاع أعلى قمة فيها 5098 متراً , بدا المنظر مهيباً لا يحتمل إلا الخشوع و التأمل !

فجأة تظهر على يميني دبابة مُدَمَّرة , تعرضها إيران , لتظل شاهدة على المعارك الطاحنة التي جرت بين البلدين الجارين طيلة ثماني سنوات ( 1980 – 1988 ) .

حرب رأيت آثارها المأساوية في العراق , وسأرى آثارها على كل إيراني ألقاه .

يتوقف بجانبي رجل و يقول : السلام عليكم , و بكل تواضع يقدم لي بعض العصير و الحلوى , لم أفهمْ ما قاله باستثناء السلام عليكم , و عاد إلى سيارته وهو يلوح مودعاَ .

وقوف الرجل بجانبي , وتقديمه قطعة من الحلوى لرحلة سوريا العالم , له دلالة كبيرة , بل وهامة جداً لي , لأنه يعني انني في بلد حضاري , و بين شعب مثقف , إذ عرف الرجل بسرعة , انني احمل رسالة , وبغض النظر , أن كان موافقا عليها أو غير موافق , يساعدني على تحقيقها ! , يرافقنا شخصان بسيارة من قبل عزيزي , و قد ظهرا منذ البداية أنهما غير مهتمَّيْن بما نقوم به ,

بل كانا يتقدمان مسافة ثم ينامان بالسيارة , و هكذا حتى الليل , يعودان إلى مهران , بينما نحن نتوجه إلى أولّ بناء نجده على الطريق , و نحاول التفاهم مع حراس و موظفي المكان لننام عندهم دون جدوى . بل يتركوننا , ننام خارج سور الشركة التي عرفتُ فيما بعد أنها شركة لصيانة الطريق الذي نسير عليه و لها عدة مكاتب على امتداده .

 

● الجمعة 12 تموز

لم يغمض لنا جفن في هذا الليل الموحش , فنبدأ المسير في الرابعة فجراً , و العتمة الرهيبة تخيّم على الكون , عتمة لم اعتد على رؤية مثلها , شديدة السواد , و كأنّ ليل إيران أكثرليلاً من غيره !, الطريق تصعد و تهبط و تتعرج , و أنا أسير بصمت , بينما وسيم , يقود سيارة سوريا العالم خلفي تماماً , لينير طريقي و يحميني من السيارات التي تمر بسرعة جنونية , وعندما ينفذ صبره من المسير البطيء , يسبقني عدة كيلو مترات و ينتظرني وهو يتسلى بالعاب جواله .

ساعات عديدة على هذا المنوال حتى الظهيرة , يأتي المترجم كرّار , و رضا مسؤول الفروسية في هذه المحافظة و معهما الطعام , فنجلس في البرية لنطعمَ الخيل و نأكل نحن أيضاً , ثم يغادران .

نتابع طريقنا التي تصبح أكثر صعوبة بل و خطورة , لدرجة أنني لم أعد أهتم بجمالية الطريق

أو بالتعب و الإرهاق , بل أصبح همي الأول أن نبقى على قيد الحياة .

نعبر جسراً طويلاً شديد الخطورة و نستمر حتى الليل , حيث نتوقف بجانب أحد فروع شركة الإنشاءات التي نمنا بجانبها البارحة , لكن المسؤول هنا – و لا أعرف لماذا – قرّر السماح لنا بالدخول إلى حرم الشركة , لنقضي ليلتنا في غرفة خشبية صغيرة بين الشاحنات المحملة بالأسمنت و دون أي فضول لديه للحديث معنا .

 

● السبت 13 تموز

يبزغ الفجر و أكتشف أننا ننام في مكان مرتفع جداً , يشرف على مساحات شاسعة , و أكتشف أيضاً أنّ أمتعتنا مليئة بالغبار , نغادر مسرعين حتى نصل إلى مكان مناسب لننظّفها ,

ونتناول طعام الصباح , ثم نتابع مسيرنا إلى إيلام , حيث رضا و كرّار ينتظران على مدخل المدينة , عند دوار المطار , و معهم العديد من أصحاب الخيول و أصدقائهم و فرسان المدينة الذين جاؤوا للترحيب بسوريا العالم .

نتوجه إلى مزرعة رضا , لنضع الخيل مع خيوله و بسرعة نشعر كأننا في بيتنا , نغسل ملابسنا

و نتبادل الأحاديث مع العديد من الخيالة و مربّي الخيول الفرحين باستقبالنا , و الذين بدأوا بتجهيز الطعام و الشراب , يفتح أحد الحاضرين قلبه ! و يخبرني أنه واحد من آلاف العاطلين عن العمل و الممتنعين عن الزواج في ايران , بسبب عدم قدرتهم على أعباء الحياة , و يطلب مني أن أنقل تظلماتهم إلى الحكومة الإيرانية . تظلمات حزينة أضل اسمعها من الشبان طيلة الطريق حتى حدود أذربيجان في شمال البلاد , لكنهم ينسون أحزانهم و يعدّون طعاماً شهيّاً .

المائدة جاهزة , والاغاني تملأ المكان , و تجعل جلستنا مليئة بالفرح , ثم نذهب إلى السوق لشراء ما يلزمنا , و ننتظر وصول باسل الجدعان , الرئيس الفخري للجمعية السورية للخيول العربية الأصيلة , القادم من دمشق إلى طهران جواً , ثم يقطع ثمانمائة كيلومتر براً من طهران إلى إيلام ليطمئن علينا . فنمضي الليل بالحديث عن الوطن و الترحال مع صديق يسكن في وجداني و أعرفه منذ سنين عديدة و أعرف أنه قامة كبيرة من القامات السورية المحترمة لدى كل من يعرفه في العالم .

● الأحد 14 تموز

صباح صامت , لا اجد كلاما يكفي لوداع باسل الجدعان العائد إلى دمشق , ولا كلاما يكفي لشكره للجهد الكبير الذي بذله حتى وصل ليطمئن علينا , و دعمه المعنوي اللامحدود لإطلاق رحلة سوريا العالم .

نسير على طريق تزداد صعوبة , فجأة يظهر أمامي نفق في منتصف هذا الجبل , أتواصل مع الشرطة كي يحضروا و يساعدوننا لعبوره , لكنهم يكتفون بالكلام ولا يحضرون .

عندها عرفت أنهم لا يتمتعون بروح المسؤولية , بل تركونا نواجه خطر الموت , نعبر النفق الممتد كيلومترين اثنين , وسط السيارات التي تمرّ مسرعة , و تطلق منبهات الصوت الحادة , لتزيد الخيل خوفاً بل جنوناً.

أسير بين نيازك الشام و أماني الجولان , و وسيم يحمينا بالسيارة من الخلف , لكنه يكتشف أنه يعيق السير لكثرة العربات العابرة , فيتقدّم حتى يخرج من النفق ثم يعود سيراً على الأقدام كي يساعدني على عبوره , لننجو من الموت الرهيب . تتغيّر الطريق بعد عبور النفق و تصبح مستوية جميلة و يكثر حولها المحاصيل والخضراوات .

نصل إلى قرية كرخانة سيمنت , ونجد أحد أصدقاء رضا الذي استضافنا في إيلام ينتظرنا على الطريق , يدعونا إلى بيته , نتحدث معه وأصدقائه عن أحوالهم و يفصحون لي عن معاناتهم ومعاناة الكثير من الشباب بسبب أحوالهم المادية الفقيرة و التي لا تسمح لهم بالزواج وبناء المستقبل .

● الإثنين 15 تموز

نغادر قرية كرخانة سيمنت و نسير حتى قرية زنجيرة السفلى , وسط منطقة زراعية تشبه

ريفنا السوري تماماً , نتجول في أزقتها المجاورة للطريق , فنلتقي شاباً , يدعونا بفضول كبير إلى بيته , الذي جعله قطعة من الجنة , هنا أقفاص المناحل و هناك مشتل الورود و بينهما أشجار التوت و التين و كل ما خلق الله من ثمار شهية

نمضي وقتاً طيباً مع حامد حيدري و والديه وأشقائه , وهو يقصّ عليّ كيف يعمل بجد و اجتهاد و فرح كبير لكسب عيشه بطريقة سامية , نقطع في لحظات قصيرة سنين عديدة

من التآلف و المودة و توحُّدِ الأرواح , لتصبح جلستنا تعبداّ خالصاً , و أكتشف كم هم قريبون إلى وجداننا و طريقة حياتنا , كما لو أننا نعيش في بيئة واحدة , و ما زلت أتواصل معهم إلى يومنا هذا , و مازالت روحي تهيم في جنبات بيتهم احيانا !

نتابع مسيرنا حتى نصل إلى مركز للشرطة على يسار الطريق , بجانب مدينة الشباب , نحاول التوقف به لنقضي ليلتنا , لكن أحد أفراد الشرطة يرفض , و يهوي على آماني الجولان , ويضربها بعدوانية هوجاء , فأمسك بيده و أردعه ! نبتعد قليلاً , و ننام في سفح جبل بجانب الطريق

نجد أنفسنا ضائعين في البرية ! ثم نتعرض لهجوم بري من أسراب النمل الكبير , مدعوم بطائرات البرغش الانتحارية , هجوم راح يقتحمنا , و يجعل حياتنا مستحيلة طيلة الليل , كل ذلك على أنغام عواء الذئاب و الثعالب القادمة من الجبال المحيط بنا

انتصف الليل , و أشعر أننا أصبحنا فريسة لهذه الطبيعة القاسية

, تتوقف بجانبنا دورية للشرطة و تتفحص أوراقنا ثم يتركوننا بحالنا ,

و لا أدري هل هو عدم شعورهم بالمسؤولية , أم اعتقادهم بالأمان بمنطقتهم ! غادرونا و عيوننا منفتحة لا تعرف النوم حتى الرابعة فجراً , فنشد رحالنا …..

● الثلاثاء 16 تموز

نقطع عدة كيلو مترات , و يفاجئنا نفق جديد , اتصل بالشرطة و لكنهم لم يردّوا , فأعبره مرغماً ,

بينما وسيم يقود سيارة سوريا العالم خلفي ليحميني , و هكذا , ما إن نعبر نفقاً , حتى نجد آخر , سبعة أنفاق نعبرها هذا اليوم , و الطريق تتعرج بين الجبال , كما تتعرج الأنهار و الوديان بمحاذاتها .

طبيعة مليئة بالنباتات والحشرات و البرغش , مما يجعل الخيل بحالة عصبية , و الناس هنا يمرون ولا يتكلمون , لأنهم لا يعرفون أية لغة أجنبية , فقط لغتهم الكردية الأم و اللغة الرسمية الفارسية .

تلحق بنا سيارة الشرطة , و على متنها عنصران , بدا عليهما الغضب , لأن هاتفي أيقضهما مبكراً هذا الصباح , مكثا معي قليلاً ثم غادرا لأنني رفضت الحديث إليهما , لقد تكونت لدي فكرة أن الشرطة هنا كسولة وغير وديّة , و لا تتعامل بمهنية معنا بل بمزاجية .

ثم تلحق بنا سيارة شرطة أخرى , بتكليف من اتحاد الفروسية , و على متنها شرطيان , أحمد يان

و مهدي عبد الله علي , يعتذران عما حدث , و يدعواننا للنوم في معمل بقرية حميل , يبدو أن ديلارام اسماعيلي مسؤولة اتحاد الفروسية الإيراني تواصلت مع إدارتهم و أبلغتهم انزعاجي من أدائهم . يستقبلنا ناطور المعمل , لكنني أكتشف سريعاً أنه يتصرف كالمجنون , إذ يمضي وقته بتنظيف بيته و ما إن ينتهي , يعاود مرة ثانية و يتكلم مع نفسه

● الأربعاء 17 تموز

نغادر المعمل في الرابعة فجراً , و كل ما حولنا في هذا الكون نائم .

نسير بلا توقف حتى نصل ظهراً إلى مدينة إسلام آباد , يستقبلنا جعفر أحمد يان , ممثل اتحاد الفروسية الإيراني , و يصطحبنا إلى مقر عمله , لتجد الخيل العشب الأخضر في الحديقة المحيطة به , ثم يدعونا إلى بيته لتناول طعام الغداء مع عائلته , زوجته وبناته وابنه مهدي , و بكل فخر يقول لنا :

عائلتنا متحررة , و لا يوجد لدينا حرج بدعوتكم إلى المنزل , كلنا اخوة ! ثم يحضر السيد ستّار الماسي , مسؤول الفروسية في محافظة كرمنشاه , فنتحدث طويلاً مع الرجل الذي بدا بغاية الجدية و الحب لعمله , يصحبني إلى الصيدلية لشراء بعض الأدوية للقولون العصبي الثائر و المراهم لرجليّ المحترقتين , و بعدها يأخذنا جعفر أحمد يان , إلى حارة يسكنها جماعة أهل الحق ( أو جماعة

” العلي إلهية ” ) ( أو اليارسانية ) . و هم منحدرون من الأكراد العلويين , و يتكلمون اللهجة الكورانية , و يؤمنون بتجلّي الإله في الإمام علي و يسمونه بابا حيدر .

شواربهم كثيفة , و ممنوع عليهم حلاقتها أو تشذيبها , ولهم رمز مقدس , هو آلة العود , ذو العنق الطويل أو الطنبور , وهم يؤلهون ” الإمام علي ” وهو واحد من سبعة , لكنه ليس أهمهم و يؤمنون بتناسخ الأرواح

و التقمص , و لا تعتقد الجماعة بعذاب القبر و لا تلعن أي مخلوق بما في ذلك الشيطان , و تشدّد على فضائل التواضع و الرضا قبل كل شيء , و تحرّم الكذب و لكنها تمنع إفشاء حقيقتها و هي منتشرة غرب إيران و شرق العراق .

يا للعجب ! كم هم قريبون , بل أشعر أننا منحدرون من بيئة واحدة , في المأكل و الملبس

و الحركات و الإيماءات و طريقة السلام و المعتقدات , وكأن الجغرافيا و المسافات تتأقلم مع الفكر بل تذعن للفكر و المعتقدات , و يصبح الناس ذوي المعتقدات المتشابهة قريبين جداً من بعضهم حتى لو تباعدت جغرافية وجودهم .

نعيش يوماً رائعاً في إسلام آباد , و كل شيء بدا على ما يرام . فجأة يأتي رجال الأمن ( اطلاعات ) و يأخذون جوازَيْ سفرنا , و يدعوننا لنقل الخيل من مكانهم ( مكتب هيئة صفار كاري إسلام آباد )

و التي يديرها جعفر أحمد يان , الذي يُصاب بخيبة أمل و إحراج كبير أمامنا . أراقب ما يجري

و أتأمل هذه التناقضات الإنسانية , مَنْ دبر له هذه المكيدة , و حرمه من تذوق هذه اللحظات السعيدة التي يعيشها معنا هذا اليوم . مَنْ قرّر إحراجه و جرح كبريائه أمامنا , و كأن الناس في المجتمعات الضعيفة لا تحتمل أن يكون أحد أكثر سعادة من غيره . جعفر أحمد يان , حزين جداً , يأخذ الخيل لتنام مع خيله في اسطبل قديم مُهْمَل , خارج البلدة , و لم يعد يجرؤ على دعوتنا للنوم في بيته , فننام في السيارة . هذه هي الحياة البشرية , قائمة على التناقض و المزاجية و المآرب , و المكائد , و يكون دائماً النشيطون و المبادرون الطيبون هم الضحية , ضحية للقطيعيّين , المنضوين داخل منظومة القطيع , و الذين يحاولون منع أي مبادرة و أي نشاط خارج عن المألوف , حتى لو كانت هذه المبادرة للمصلحة العامة , إنني على يقين بأن هذا الرجل يحب وطنه وأسرته و متصالح مع نفسه , وهذا ما يزعج الحاقدون وضعاف النفوس , فوشوا به إلى رجال الأمن ( اطلاعات )

● الخميس 18 تموز

أغادر مدينة إسلام آباد الإيرانية في الرابعة فجراً , لكن رجلاً يعترضني وسط الظلام الدامس ويشهر عصاه في وجهي , و قد ظنّ أنني سارق للخيل , فاتصل بجعفر أحمد يان ليكلّمه و يخبره من أنا , فيطلق سراحي .

عند الظهيرة , يحضر رئيس اتحاد الفروسية ستار المآسي , و شقيقه المهندس سيبير الماسي و معهم شاب صغير اسمه علي خَرَس , و يعيدون إلينا جوازات سفرنا التي كانت مع المخابرات الايرانية ( اطلاعات ).

نتحدث قليلاً ثم يغادران , و يتركان الشاب الصغير معي , بل الفارس الصغير الذي يمتطي أماني الجولان دون سرج , و هذه أول مرة يمتطي أحد صهوتها , يرافقنا علي خرس عشرة كيلومترات حتى نصل إلى قريتهم ( ماهي دشت ) لنجد كل سكان القرية متجمهرين بانتظارنا , مع خيولهم و فرسانهم .

رجال و نساء و شرطة و رجال دين , مصافحة و عناق إخوة و كلام وجداني ….. و نذهب في موكب مهيب , إلى دار أحد أقرباء ستار الماسي , المليئة بالخير , غنم و ماعز و خيل , يقدمون الطعام لعشرات الحاضرين , بمناسبة وصولنا , و يهدوننا مصحفاً , ثم نتحدث عن الحرب على سوريا و ننشد معاً , الأناشيد الروحية على أرواح الشهداء , تغمرني السعادة و أصرخ :

,,, وجدتُها وجدتُها ,,, وجدتُ الإجابة على أسباب ترحالنا , هذه هي رحلة سوريا العالم ,,,

هي الالتقاء بأصدقاء سورية في العالم , ولأجل هذه اللحظات يهون كل عذاب ومشقة .

يغادر الضيوف في آخر ساعات المساء , و ننام في هذه الدار , على فراش من الصوف البلدي , لكن رائحة المواشي عالية التركيز ! تدغدغ أنوفنا طيلة الليل .

● الجمعة 19 تموز

جاهزون للمسير , بانتظار ( الفارس علي خَرَس ) الذي زعم البارحة أمام الحشود , أنه سيرحل معنا لعدة أيام , لكن كلام الليل يمحوه الصباح في بلاد الشرق , ( كلام الليل يمحوه النهار ) , إذ يخبرني سيبير الماسي بإنجليزية متقنة , أن علي خرس نائم , لأنه أمضى الليل بالغزو !

و مَنْ لا يغـزُ في الليل ( و يسرق ) لا يُعْتبرْ رجلاً قوياً , و هي عادة قديمة و متأصلة في هذه المنطقة لدى بعض شرائح المجتمع , حسبما أخبرني سيبير الماسي , و تقضي بأن يقوم الشاب بالسطو ليلاً , كي يستحق لقب الرجل القوي ! .

طريق تنساب بين السهول الزراعية الخصبة , لكن السماء تفتقد إلى الزرقة الصافية التي تعودنا عليها في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط , وهذا ما نلحظه في معظم المناطق الإيرانية ,

نعبر قرية ماهي داشت , و نستمر في المسير حتى مدينة كرمنشاه , نتوقف في بيت صديق ستار الماسي على يمين الطريق , نضع الخيل مع خيوله و يدعوننا إلى غرفة كبيرة للضيوف , لنستريح حتى المساء , حيث يأتي أحد زعماء المدينة ومالك كبير للخيول , و يدعونا للعشاء مع عِزوته الكبيرة بحضور ستار الماسي , و شقيقه سيبير الماسي , الذي يترجم لي من لغتهم الكردية الأم .

● السبت 20 تموز

يحاول ستار الماسي جاهداً , تعريفنا بمعالم مدينته , وخاصة حديقة الزهور الأعجوبة , والتي تحوي عينات من كل زهور العالم , و يفاخر بأننا نستطيع أن نأكل الفلافل العربية في مدينة كرمنشاه , ثم يأتي موعد زيارة مبنى المحافظة , فنلتقي المسؤولين فيها , و بالتأكيد كمعظم اللقاءات الرسمية , لا تتسم بطابع العفوية و الوجدانية , بل الكثير من المجاملة . ثم يصحبنا , و دائماً مع شقيقه سيبير لزيارة صحيفة روزنامة , حيث تستقبلنا رئيسة التحرير و زميلاتُها بلباسِهُنَّ المحتشمِ , و تُبديْنَ اهتماماً بما يجري في سوريا و تُقدمْنَ لنا الحلوى ( الكعك ) التي تشتهر بها كرمنشاه ,,, كاك ,,, . أشعر بسعادة غامرة بلقاء المرأة الإيرانية المثقفة , التلقائية المشاركة بالحياة المهنية , البعيدة عن التصنع , بمظهرها الأنيق ببساطته , و وجهها الروحاني الجميل , بلا أصباغ ولا مساحيق , يعتليه حاجبان طبيعيان ( غير منتوفان ) من خلقة رب العباد !

. خلال هذه اللقاءات , تعيش ذاكرتي بالتوازي مع عشرات الذكريات التي عشتها في مدن عديدة في بلاد الشرق , من دمشق إلى بغداد ,, استنبول و قرطاج و أثينا ,, في كل مدينة من هذه المدن , سمعتُ أهلها يقولون : أنّ مدينتهم قلب العالم , و هي محور العالم , و هي مُلهم للفنانين في العالم , و لو أردنا أن نقرأ تاريخ هذه المدن لاحتجنا عمراً بأكمله , لكثرة ما كتب المؤرخون عنها .

كرمنشاه واحدة من هذه المدن فهي في نظر أهلها ( الهند الإيرانية ) بسبب تنوعها المناخي

و الديني و العرقي و زراعتها الغنية و تكرير النفط فيها , و بعض سكانها من الأكراد الذين يعتبرون أنفسهم , أنهم ينتمون إلى الأكراد الآريين الأكثر قدماً في هذه المنطقة . والأكثر من كل ذلك , فإن مدينة كرمنشاه ترتبط بقصة الحب الفارسية الرومانسية الأسطورية التي عاشها خسرو الثاني آخر ملوك الإمبراطورية الساسانية . و كان لهذه المدينة نصيبها من قصص ألف ليلة و ليلة في

العهد العباسي أيضاً .

نغادر المدينة عصراً مع دليلنا الرائع سيبير الماسي , هذا الشاب الواعد الذي يسير معنا حتى آخر حدودها , و يودعنا بعد أن أعطانا عنوان أصدقاءٍ له على الطريق , فيسبقني وسيم إليهم و أسير مع الخيل حتى الواحدة ليلاً , لأصل إلى مزرعة كبيرة تشبه العزبة الإقطاعية و ألتقي فيها بشبان يأكلون و يشربون المشروبات الكحولية , و قد بدوا مثمولين حتى النهاية , لذلك فضلت النوم في حديقة الدار حتى الفجر

* الصورة الرئيسية تجمع الرحالة الكاتب عدنان عزام مع وزير الخارجية الايراني شهيد الواجب امير عبد اللهيان

 

الجنرال مهدي ضفري رئيس المتحف الحربي في همذان

مع مواطنين لي همذان

(موقع سيرياهوم نيوز-3) .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماة تكرم عمال الكهرباء لتأهيلهم ما دمره العدوان الإسرائيلي على مصياف

محمد أحمد خبازي   أكد محافظ حماة معن صبحي عبود لـ«الوطن»، خلال تكريمه صباح أمس عمال الكهرباء والوحدة التشغيلية في المنطقة الوسطى، الذين أعادوا تأهيل ...