- أكثم سليمان
- الجمعة 21 كانون الثاني 2022
بدأت في مدينة فرانكفورت الألمانية قبل يومين محاكمة الطبيب السوري علاء م. المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. تعرّفتُ إلى المتهم قبل خمسة أسابيع من اعتقاله، وهنا أوجه إعلامية وشخصية غائبة سبقت فتح الملف قضائياً وصولاً إلى المحاكمةجاء صوت الدكتور علاء م. مرتبكاً عبر الهاتف في تواصلنا الأوّل منتصف أيار من عام 2020، وهو يتحدّث عن تهديدات يتلقاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي من زملاء سابقين له يعيشون حالياً في تركيا وعملوا معه لبضعة أشهر في مستشفى حمص العسكري في بداية «الأحداث» في سوريا. لفتني أن الطبيب الشاب (36 سنة) كان مهذّباً ومسالماً في توصيف الأمور رغم أن التهديدات المذكورة كانت تتعلّق بتدمير مستقبله المهني في ألمانيا التي وصلها عام 2015 بتأشيرة عمل نظامية كطبيب، حاله حال أكثر من خمسة آلاف طبيب سوري في ألمانيا ممن اضطرتهم ظروف الحرب والمشاكل المعيشية لمغادرة بلدهم في السنوات الماضية. لكن ما بدا للوهلة الأولى وكأنه «صراع فايسبوكي» معتاد، تكرّرت طبعاته وتنوّعت مواضيعه بين فرقاء الحرب السورية بخياراتهم المختلفة، انقشعت ملامحه لاحقاً لتكشف عمّا يشبه تصفية حسابات من العيار الثقيل، خصوصاً مع دخوله مرحلة المحاكمات الإعلامية واللكمات الصحافية على مدى أكثر من عام.
انتقلت ساحة الصراع من «فايسبوك» إلى إعلام الإنترنت مع نشر صحيفة «زمان الوصل» الإلكترونية المعارضة في نيسان 2019 مقالاً عن المستشفى العسكري في حمص يَتّهم فيه طبيبٌ سابق في المستشفى اسمه محمد و. الطاقمَ الطبي بأسره من أطباء وممرضين، عسكريين ومدنيين، وحتى موظفي شركة التنظيف، بممارسات «عنصرية وطائفية ولاإنسانية» تجاه المصابين من المتظاهرين الذين يؤتى بهم للعلاج، وصولاً إلى تعذيب كان يتم، وفق هذا الشاهد، في عربات الإسعاف وأقسام المستشفى المختلفة كقسمي الأشعة والعناية المشدّدة، وحتى المراحيض! كان محمد و. هو الزميل السابق الذي هدّد علاء على وسائل التواصل الاجتماعي بتدمير مستقبله. وقد التحق، وفق أقواله هو نفسه، بمسلحي قلعة الحصن في بلدة تلكلخ قرب حمص في نهاية عام 2012.
لم يكن الطبيب علاء «من قرية الحواش في وادي النصارى» محورَ هذه المقالة بل شخصية واحدة ضمن أخرى اُتّهمت بأعمال القتل والتعذيب. وكان لافتاً أن كلّ اسم ورد ذكره في المقال ــــ وكأنّ فظاعة الأفعال المنسوبة إلى صاحب الاسم لا تكفي ــــ رُبط بشكل مباشر أو غير مباشر بديانته وطائفته في ممارسة تذكّر بالمحاولات المتكررة في أوساط إسلامية متشدّدة لسبغ صيغة الصراع الديني والطائفي على الحرب في سوريا وفق صيغة: أقليات ضد الأغلبية. وترافقت هذه الصيغة مع سردية أخرى تُجرّم كل من يعمل في مؤسسات الدولة، وبخاصة العسكرية منها.
وكانت «زمان الوصل» نفسها، الموجودة في تركيا، قد نشرت قبلها بشهر لائحة بصور وأسماء أكثر من سبعين شخصاً من العاملين في مستشفى المزة العسكري في العاصمة دمشق في رسالة فحواها: هؤلاء هم أنصار النظام ومرتكبو الجرائم. ويعرف السوريون العاملون في المجال الطبي حالات كثيرة تمّ فيها اغتيال أطباء بالرصاص أو بسيارات مفخّخة بعد نشر مثل هذه اللوائح والاتهامات. لم يحظ مقال «زمان الوصل» بأصداء إعلامية واسعة رغم الأبعاد الكبيرة للاتهامات الواردة فيه بارتكاب فظائع، ورغم نشر صور أطباء، بينهم علاء، بأسمائهم الصريحة. ولم يعلّق إلا 13 قارئاً بتعليقات عامّة.
كما لم يكن ثمّة تفسير في المقال لصمت الشاهد (الذي انضمّ إلى جماعة «جند الشام» المرتبط آنذاك بتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قبل الخروج إلى تركيا) لمدة سبع سنين قبل الخروج بإفادته في وسائل الإعلام. لكن المحاكمة الإعلامية استمرت لتصل إلى محطتها الثانية، حيث نشرت «زمان الوصل» بعدها بأكثر من عام مقالين متتاليين في أيار 2020، ركّزت في الأوّل على شخص الطبيب علاء (مجدّداً بالصورة والاسم الكامل) الذي قالت إنه لجأ «إلى ألمانيا ويعمل بها» مع ذكر اسم البلدة التي يقيم فيها (بادفيندونغن) مكتوباً بالأحرف اللاتينية. وركّزت في الثاني على ظهور من سمّتهم «شهوداً جدداً» من ضحاياه المفترضين. ومرّة أخرى لم يعلّق على كلّ من المقالين، رغم تتابع النشر بفارق أيام قليلة، إلا ثلاثة قرّاء، لكن «زمان الوصل» نشرت ترجمة بالإنكليزية للمقالين في مؤشّر على خروج المواجهة الإعلامية من بُعدها المحلّي السوري أو العربي إلى فضاءات أوسع.
في 19 حزيران 2020 اعتقلته الشرطة الألمانية في المستشفى الذي يعمل فيه لينتقل ملفه إلى الساحة القضائية من دون أن يغادر الساحة الإعلامية
لم يكن المقالان الأخيران في «زمان الوصل» هما ما يثير قلق الدكتور علاء على اعتبار أن وسيلة الإعلام هذه محدودة الانتشار وذات انتماء واضح في صراع كبير ومديد. لكن أحوال الطبيب السوري انقلبت رأساً على عقب مع بثّ قناة «الجزيرة» الفضائية من قطر وثائقياً مدته ساعة كاملة بعنوان «البحث عن جلادي الأسد» تزامن مع نشر المقالين. فعلى العكس من «زمان الوصل» تحظى القناة القطرية بانتشار منقطع النظير داخل البلدان العربية وفي المهاجر وبسمعة دولية بغضّ النظر عن مواقفها المثيرة للجدل بالنسبة للبعض في ما يتعلّق بهذا الصراع أو ذاك. لم يتضمّن وثائقي «الجزيرة» معلومات جديدة تُضاف إلى ما ذكرته «زمان الوصل» سابقاً، حيث كان التركيز أيضاً هنا على المستشفيات العسكرية بشكل عام مع إعادة ـــــ في ما يتعلّق بعلاء م. ـــــ بالصوت والصورة هذه المرة لشهادات زملائه السابقين الموجودين في تركيا، ومع التركيز على خطره وخطر غيره من «أنصار النظام السوري» الذين تقول القناة إنها لاحقتهم وكشفت تسلّلهم إلى ألمانيا إبّان موجة اللجوء عام 2015، على بقية اللاجئين الموجودين هناك.
كما غمزت «الجزيرة» من قناة جهات الادعاء العام في مختلف الدول الأوروبية والتي ــــ وفق أحد المتحدّثين في الوثائقي المذكور ــــ تتردّد في رفع دعاوى بحق مجرمي الحرب السوريين خوفاً من تفجّر الجدل الداخلي مجدّداً حول قضية اللاجئين! لم يبق اتهامُ علاء بارتكاب الفظائع على شاشة قناة دولية ووضعه في مواجهة مفترضة مع مئات آلاف اللاجئين الموجودين في ألمانيا من دون أثر، خصوصاً أن الوثائقي اكتسب مسحة إضافية من المصداقية من خلال التعاون مع مجلة ألمانية مرموقة ومعروفة حتى في العالم العربي هي أسبوعية «دير شبيغل». ومع تلاطم الأمواج الإعلامية دخل علاء م. في دوامة من الخوف، لا من ملاحقة قضائية محتملة كان متأكداً أن ليس ثمّة ما يستوجبها، ولكن من ردود فعل عنيفة وغير محسوبة تجاه شخصه وعائلته مع وضعه في خانة اليك إعلامياً، حيث كتب أحد المعلقين على «فايسبوك» بعد وثائقي «الجزيرة» إنه يعمل في مطعم يتردّد عليه هذا الطبيب «ولو كنت أعلم أنه ذاك الخنزير لذبحته من الوريد إلى الوريد».
فـ«الجزيرة» لم تكتفِ بذكر الاسم الصريح لعلاء في وثائقيّها بل صوّرت مكان سكنه ونشرت صورة حديثة له التقطتها سرّاً في المستشفى الألماني الذي يعمل فيه. ورغم أنه أكّد عبر محاميه براءته من التهم الموجّهة إليه إعلامياً في مقال نشرته «دير شبيغل» بعد وثائقي «الجزيرة» بحوالي أسبوعين، فإن فأس الإدانة الإعلامية المسبقة كانت قد وقعت بالرأس، محلياً وعربياً وألمانياً ودولياً، والأهم: في مكان العمل، حيث يقرأ مدير المستشفى الألماني عن طبيب يعمل لديه (وإن استخدمت «شبيغل» اسماً مستعاراً) تحقّق النيابة العامة الألمانية بشأن ارتكابه جرائم ضد الإنسانية. صار علاء أشبه بجوزيف ك. بطل رواية «المحاكمة» لفرانز كافكا! يتخبّط طلباً للمساعدة. مرة يفكّر في إجازة تبعده عن المعمعة، ومرات باللجوء إلى الإعلام أو إلى بعثة بلاده لدى الأمم المتحدة في نيويورك معتبراً أن ما يجري معه قضية دولية، أو إلى سفارة بلاده في ألمانيا، ومرّة أراد الاستعانة بالكنيسة، ولكن سبق السيف العذل.
في 19 حزيران 2020 اعتقلت الشرطة الألمانية الدكتور علاء م. في المستشفى الذي يعمل فيه، لينتقل ملفه إلى الساحة القضائية من دون أن يغادر الساحة الإعلامية. في نهاية عام 2021 نشرت مجلة «دير شبيغل» مقالاً بعنوان: «دكتور التعذيب»، من دون حتى إشارة استفهام احتراماً للمحاكمة المقبلة. ولم تتخلّف وسائل إعلام عربية وعالمية كثيرة عن هذه الإدانة المسبقة. وبغضّ النظر عن الجدل في الأوساط القانونية أو الإعلامية عن وجاهة المحاكمة التي تبدأ الآن استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية الدولية، أي اختصاص حتى المحاكم الوطنية في البتّ في قضايا جرت أحداثها في دول أخرى وقام بها مواطنو دولة أخرى عندما يتعلّق الأمر بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فإن هذه المحاكمة هي الأمل الأخير للدكتور علاء م. لاستيضاح الحقائق قانونياً، بعدما تمّ، كما يقول، ليّ عنقها إعلامياً.
* صحافي سوري مقيم في برلين
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)