سعاد سليمان
في سن المراهقة .. وبوجود أهل طيبين محبين يدعون حاجاتهم , وأولادهم , بإيمان كبير , يسلمون أنفسهم لمشيئة الله , وللقدر , ويبتسمون ..
قررنا أنا , وأختي الأكبر , وصديقتها السفر إلى طرطوس ..
هي مغامرة بالنسبة لثلاث فتيات .. دون رجل .
كان هذا في نهاية التسعينيات ..
كانت الرحلة من حمص إلى طرطوس عبر ميكروباص مهترئ ..
وصل بنا إلى منطقة الكراج القديم – اليوم –
نزلنا هناك , ونحن لا نعرف شرق المدينة من غربها , وكنا قد مررنا بها عدة مرات مع أهالينا , أو في رحل مدرسية كان همها الوحيد رؤية البحر .
في البداية مشينا غير قاصدين الا التعرف على المدينة الهادئة يومها , المتواضعة , البسيطة بساطة من مروا بنا , ومررنا بهم , ولم يرونا .. هكذا كان انطباعنا –
وحين سألنا أحد المارة عن كراج الدريكيش دلنا بكل لطف , واحترام .
عندما وصلنا إلى ” المشبكة ” الهادئة البسيطة الفارغة يومها إلا من بعض المارة , لفت انتباهي مطعم : طاولاته من خشب بسيط متواضع , وكراسيه …
وكأنها صنعت بيد عجوز متعب وجاهل .. وكأنك في العصور الوسطى ..
في المطعم رجل بل اثنان يتناولان الطعام ..
في الشارع , المارة قلة , وكأنه يوم عطلة , أو منع تجول !!
عند ساحة الدوار , وإلى يسار الطريق ..
هناك على الرصيف تجمع بعض الناس بانتظار واسطة نقل تقلهم إلى قراهم ..
وحين وصل سرفيس الدريكيش ركبنا ..
بجانب الموقف كان بائع فلافل , تنتشر روائحه , وما يزال , وما تزال ..
أما السرفيس فكان من العجائب .. مغلق من الجانبين , وبابه من الخلف !!!
يدخل الركاب , ويجلسون بشكل دائري , كأسرة متحابة , حيث تلتصق الاكتاف , والأكف , وتتشابك الأحاديث .
حين نظر السائق إلينا أنا , وأختي , والصديقة استغرب وجوهنا , وكأنه يعرف كل الركاب , ووجهتهم ..
وسألنا بحزم , وهو ينظر من مرآته التي تعكس صورنا : من أنتم , وإلى أين تتجهون ؟
أجبته بحماس : إلى قرية ” … ”
فتح عينيه بتعجب , وسألني :
من لكم في ” …. ”
قلت بثقة : بيت عمي
ما اسم عمك ؟!!!
حين أجبته قال :
أنت ابنة فلان ؟
قلت : نعم
قال : هل تعرفين عمك ؟
قلت بثقة : نعم .. طبعا
قال بهدوء شديد : أنا عمك !!!!
حين وصلنا إلى القرية , وبعد أن دفعنا الأجرة , مضينا في الطرقات المجهولة بالنسبة لنا ..
كانت المرة الأولى , والأخيرة التي أرى فيها وجه عمي – أخ لأبي من أبيه ..
في القرية القريبة البعيدة , النائمة الصاحية ..
كانت الطرقات الصغيرة ترابية , والبيوت متواضعة إلا بيتا أمامه معصرة زيتون , وحركة حياة ..
سألنا رجل لطيف يقف أمام المعصرة التي لفتت انتباهنا , واهتمامنا : من أنتم ؟
حين أخبرته .. وكان صاحب المعصرة .. فتح باب بيته على مصراعيه , واستقبلتنا زوجته الطيبة بكل محبة , وكرم , ولطف ..
محبة دخلت القلب , ولم تخرج حتى اليوم ..
الطعام الطيب كأصحابه , والنوم الهانئ في غرفة خاصة بنا تطل على شارع هادئ , ضم عدة فتيان من أهل القرية يريدون معرفة , ورؤية القادمين إليهم .. وكأننا من كوكب آخر ..
وثرثرة تحت ضوء القمر عن صبايا قادمات بمفردهن إلى القرية !!
في الصباح .. وعند الوداع أكد الرجل الذي عرفنا أنه قريب الوالد أن بيته بيتنا متى أردنا , وأنه ضمنا إلى أولاده ..
تجربة تحفر في القلب , والروح ألما حين أمر بشوارع طرطوس اليوم المزدحمة حيث لا رصيف لمار .. الأرصفة لأهلها المجاورين فقط .. عليك المضي بين السيارات المتزاحمة ..
والأسوأ ..
أن ترى الطاولات البلاستيكية , والكراسي التافهة تتزاحم على الكورنيش البحري في محاولات لكسب لقمة عيش أمام مقاهي , وفنادق من أربع , أو خمس نجوم مليئة بالزوار من كل سورية ..
وسياراتهم الفخمة التي تمضي بين المارة على الرصيف العريض , وكأنها بشر لا ماكينات ..
والأسوأ .. أن أبواقها تصرخ غاضبة من مرورك غير المكترث بسيارة فاخرة تمشي على رصيف !!!
وفي الكراج الجديد .. الجميل قياسا بما مضى .. لا بد أن ترى أفواجا من المنتظرين لحافلة تقلهم إلى الدريكيش مثلا أو …
وحين تصل إحداها ترى الهجوم الشرس لاصطياد مقعد تتشارك , وغيرك فيه .. لا يهم .. المهم الوصول إلى الهدف لا الأسلوب , ولا الطريقة .. ولم نصل بعد !!!
(سيرياهوم نيوز1-التاسع والعشرين من تموز2022)