- يحيى دبوق
- الأربعاء 29 كانون الأول 2021
يبدو أن زيارة جايك سوليفان إلى تل أبيب أثمرت التزاماً إسرائيلياً بالامتناع عن أيّ فعْل عسكري ابتدائي، من شأنه الدفْع في اتّجاه توريط الولايات المتحدة في حربٍ لا تريدها ولا تجد مصلحة فيها. وإذا كان هذا الالتزام أقرب إلى «تحصيل حاصل»، جرّاء محدودية القدرة الإسرائيلية في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، فإن الخيارات أمام كلّ من واشنطن وتل أبيب باتت محصورة في مسارات ثلاثة لعلّ أبرزها، الاستمرار في المفاوضات من دون طائل أو العودة إلى سياسة «الضغوط القصوى». والظاهر أنه في ظلّ إصرار الأميركيين على استبعاد الخيار العسكري، فإن السيناريو الثاني هو ما يبدو الأفضل والأوْلى بالنسبة إلى تل أبيب، بالنظر إلى أيّ اتفاق جديد مع إيران سيكون أسوأ من سابقه لعام 2015، أو في الحدّ الأدنى معادِلاً له في السوءأنهى مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، زيارة قصيرة لإسرائيل وُصفت بـ«المفصلية والكاشفة»، خصوصاً في ما يتّصل بأحد أهم محاور التباين بين الجانبين، أي كيفية مواجهة البرنامج النووي الإيراني. وإذا كان هذا التباين لا يعني، في حال من الأحوال، الافتراق، خاصة أن مصالح تل أبيب لا يمكن أن تتحقّق من دون واشنطن، فهو بات، بالفعل، يضغط كثيراً على طرفَيه، ويحدّ من صدقيّتهما وتساوقهما، وينذر بإمكانية الإضرار بمصالحهما البَيْنية، وتحديداً مصلحة إسرائيل، التي تريد من حليفتها الكبرى مطالب تتجاوز بأشواط مصالح الولايات المتحدة وإمكاناتها، في ظرف داخلي وخارجي ضاغط على البيت الأبيض. وهكذا، فإن الهُوّة التي أضحى متعذّراً ردمها على ما يبدو، يُعمل فقط على جسرها، وهو ما تأتي في سياقه زيارة سوليفان – الذي يُعدّ واحداً من أهمّ الشخصيات المؤثّرة على طاولة القرار في واشنطن -، والتي تستهدف تظهير صلابة هذا الحلف، على رغم المطبّات التي تعترضه، والتي جلّت بعضاً منها زيارات وزير الأمن الإسرائيلي، بني غانتس، وعدد من أركان جيشه وكبار المسؤولين الأمنيين، لواشنطن، في محاولة لتغيير المقاربة الأميركية، من دون نتائج تُذكر، فضلاً عن الردّ الأميركي القاسي على امتناع رئيس حكومة العدو، نفتالي بينت، عن استقبال المبعوث الأميركي لشؤون إيران، روبرت مالي، حيث أصبح واضحاً أن الرئيس جو بايدن يرفض تلقّي أيّ اتصال من بينت، ويسمح بالاتصالات على مستوى الصفّ الثاني فحسب.
في النتائج المُعلَنة، نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مصدر إسرائيلي رفيع قوله إنه «بعد المحادثات مع سوليفان، يمكن القول إن الوضع مقابل إيران هو أفضل ممّا اعتقدنا»، و«إن الفجوات بين الجانبين قد تقلّصت». لكن ماذا عن الغرف المغلقة؟ وفقاً للتسريبات أيضاً (القناة 13)، فقد جاء المسؤول الأميركي كي يُرسي تهدئة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من دون أن يصحب معه أيّ بشرى حقيقية، فيما بقيت الخلافات المتّصلة بإيران كما هي؛ فـ«الإسرائيليون يطلبون من الأميركيين تشديد العقوبات وموقفاً صارماً في المفاوضات، مقابل رفض الأميركيين تغيير مقاربتهم». وبحسب ما ورد على لسان سوليفان نفسه (إسرائيل اليوم 23/12/2021)، فقد بلورت واشنطن، بالفعل، خطّة عقوبات على إيران في حال فشلت المفاوضات في فيينا، «يُتوقع أن تنضمّ إليها أيضاً الدول الكبرى، وهي تشمل تشديد العقوبات على الاقتصاد الإيراني، بما في ذلك تصدير واستيراد النفط، وإدانات في مجلس الأمن، وفرض عقوبات شخصية على مسؤولين في القيادة الإيرانية، وغير ذلك». لكن متى ستُنفَّذ هذه الخطة؟ وماذا لو سبقت الولايات المتحدة، إيران، إلى تليين موقفها في المفاوضات؟ هنا، لا ضمانة أميركية لإسرائيل، وهو ما يمثّل معضلة رئيسة بالنسبة إلى الأخيرة.
من جهة واشنطن، فإن الأهمّ هو التزام تل أبيب بعدم مهاجمة طهران عسكرياً، والتسبّب بتصعيد إقليمي واسع، يُعدّ، من ناحية الأميركيين، أسوأ السيناريوات وأكثرها ابتعاداً عن مصالحهم وإمكاناتهم، في مرحلة تتزاحم فيها التحدّيات والتهديدات أمام الولايات المتحدة، على أكثر من صعيد إقليمي ودولي. والظاهر أن هذا الالتزام مرتبط بسلّة تفاهمات، يُفترض أن تتّضح لاحقاً، لكن طبقاً لتسريبات في الإعلام العبري (يديعوت أحرونوت)، فـ«إن إسرائيل بدأت تُغيّر اللهجة، وتبعث إلى أميركا برسالة تهدئة مفادها: أيضاً من دون اتفاق، سنعالج إيران من دون حرب». وبحسب التسريبات نفسها، «تحاول حكومة بينيت – (يائير) لابيد إقناع إدارة بايدن بأنه في حال فشلت المفاوضات مع الإيرانيين في فيينا، فستعمل إسرائيل على بلورة سبل لإحباط المشروع النووي بالتنسيق مع البيت الأبيض، ومن دون مواجهة عسكرية»، بل إن «بينيت أمَر المؤسسة الأمنية والعسكرية بالامتناع عن تصريحات عن هجوم محتمل على إيران». والواقع أن هذه التفاهمات، التي تأتي كـ«تحصيل حاصل»، ربطاً بحدود القدرة الإسرائيلية والموقف الأميركي الحاسم، تمثّل نوعاً من التسوية بين خشيتَين: أولى أميركية، من أن تنزلق تل أبيب إلى تصعيد فحرب تنجرّ إليها واشنطن قسراً؛ وثانية إسرائيلية من أن تحمل تهديدات الكيان العبري، الولايات المتحدة، على تليين موقفها التفاوُضي، وتسهيل إنجاز اتفاق قد يكون من ناحية الإسرائيليين أسوأ من اتفاق عام 2015، أو في الحدّ الأدنى مساوياً له في السوء.
لا تملك إسرائيل، في مواجهة إيران، أفضل من السلاح الأميركي، سواءً كان عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً
ما بين هذَين السيناريوَين، طرحت إسرائيل احتمالات لِما بَعد فشل التفاوض، من بينها العودة إلى سياسة تشديد العقوبات، وهو ما يُعدّ بالنسبة إليها أَوْلى وأفضل من اتفاق جزئي ومؤقّت، لم يَعُد يجدي نفعاً بعد الخروق الإيرانية للاتفاق السابق، الذي هدف أصلاً إلى منع إيران من الوصول إلى المستوى الذي بلغته الآن، والذي لا يمكن التراجع عنه، وتحديداً في ما يتعلّق بتقنيات رفع التخصيب إلى 60%، وتقنيات صُنع أجهزة طرد متطوّرة وتفعيلها، إذ إن لبلوغ هذا المستوى، مع ما يعنيه من تموضع إيران قريباً من العتبة النووية العسكرية، تداعياتٍ تستدعي من إسرائيل جهداً ووقتاً طويلَين لحلّها. في المقابل، لا يُعدّ وصول إيران إلى درجة «دولة الحافة النووية»، من ناحية الولايات المتحدة، تهديداً يلزمها بالتحرّك العسكري، وذلك على خلفية اعتقاد الأخيرة بأن بإمكانها التعايش مع هكذا تموضع، فضلاً عن حالة التوثّب الأميركي الهجومي – الدفاعي في مواجهات دولية مستجدّة وداهمة. ومن هنا، تبدو واشنطن، في ظلّ ترجيحات إسرائيلية بأن مسار فيينا آيل إلى الفشل بسبب تصلّب الموقف الإيراني، أمام ثلاثة خيارات: مواصلة المفاوضات لذاتها مع رهان محدود على نتائجها وقضْم إيراني متواصل للمسافة المتبقّية قبل الوصول إلى العتبة النووية العسكرية، أو العودة إلى سياسة الضغط الاقتصادي مع رهان قسري على فاعليتها، أو الخيار العسكري الذي لا يبدو حاضراً على طاولة التخطيط والقرار الأميركية، لأكثر من سبب داخلي وخارجي. أمّا إسرائيل، فستكون تهديداتها، في حال فشل المفاوضات، موضع اختبار، حيث سيَظهر عجزها عن تنفيذها، وهو ما سيخلّف تداعيات سلبية، لا على مواجهتها «التهديد الإيراني» الذي سيبقى قائماً ومتعاظماً فحسب، بل على كلّ ساحات الصراع مع أعدائها.
بناءً عليه، يمكن القول إن إسرائيل لا تملك، في مواجهة إيران، أفضل من السلاح الأميركي، سواءً كان عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، فيما أيّ خيارات أخرى هي غير ذات فائدة. نعم، كانت إسرائيل لتُقدِم على الاعتداء على إيران من دون تردّد، مع ضوء أخضر وترحيب أميركيَّين، لو أن القدرة النووية الإيرانية شبيهة بتلك التي كانت للمشروع النووي العراقي عام 1982، أو ما قيل عن المشروع النووي السوري عام 2007، حيث تستطيع تل أبيب عندها توجيه ضربة ما ضدّ هدف ما، لكن هكذا ضربات لا يمكن لها أن تكون كافية لاجتثاث القدرة النووية الإيرانية، بل هي قد تؤدي، وفق ما تحذّر منه واشنطن، إلى حمْل طهران على تسريع خطاها نحو استحصال قدرة نووية عسكرية. ومن هنا، تأتي أهمية الالتزام «الانكفائي» العسكري الإسرائيلي – حتى لو فشلت مفاوضات فيينا -، والذي لا ينفي وجود فرضيات من نوع ضربة لا تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة إلى التدخّل عقبها؛ إذ لن تكون حليفتها – والحال هذه – في موضع تهديد وجودي أو خسارة إقليمية، ما يعني أن واشنطن ستلجأ عندها إلى محاولة لجْم التصعيد والدفْع في اتّجاه وقْفه.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)