نورالدين برحيلة
في كتابه “دفاعا عن التاريخ أو مهنة المؤرخ” كشف المؤرخ الفرنسي مارك بلوخ عن أهمية التاريخ في حياة الشعوب، لا يمكن فصل الحضارة عن التاريخ، التاريخ والحضارة وجهان لعملة واحدة، بمعنى أن تزييف التاريخ هو تزييف للحضارة وتدمير لها، لذلك فوظيفة المؤرخ هي حماية التاريخ من الكذب والتضليل والتزوير وكل أضداد الحقيقة.
التاريخ حسب المؤرخ بلوخ هو كشف للحقيقة، غير أن “قيمة” هذه الحقيقة التي يكتشفها المؤرخ هي أكبر من مجرد تدوينها في كتب مزخرفة مذهبة، ودفنها في رفوف أنيقة مرفوعة، الحقيقة التاريخية تكتسب قيمتها من كونها طريقا لدولة الحق والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم، قيمة الحقيقة التاريخية تتجلى في التقاط قوانين الوقائع والأحداث التاريخية التي أسهمت في حياة الرخاء والتماسك الاجتماعي والازدهار.. وأسباب المآسي والانتكاسات والانحطاط.. قيمة التاريخ هي جعل الشعب يرتبط بجذوره دون انغلاق، وينفتح على مختلف الحضارات دون ذوبان.. الجذور هي الماضي، والشعب الذي ليس له ماض، لا حاضر ولا مستقبل له.
هل يعرف المغاربة وظيفة مؤرخ المملكة؟ وهل يعرفون تاريخ المغرب الحقيقي؟ كيف هي علاقة الشعب المغربي بالتاريخ؟ وما قيمة التاريخ في حياة الشعوب؟ أسئلة التاريخ أشبه بكرة ثلجٍ، كلما تدحرجت ازدادت تضخما وإحراجا، وأخطر الإحراجات والمفارقات Les paradoxes التي نعيشها اليوم “الإفلاس التاريخي” بعدما استنفذ “التاريخ الرسمي” صلاحيته ومصداقيته، مما أفضى إلى طلاق بين جيل الشباب وتاريخ المغرب، هذا الطلاق هو قطيعة إبيستمولوجية، أصبحت عفوية بين شريحة كبيرة من المواطنين وبين إرادة المعرفة التاريخية للمغرب، جراء فقدان الثقة في الرواية التاريخية الرسمية، بما هي رواية نمطية انتقائية، تؤرخ لتاريخ الملوك أكثر من انكبابها على تاريخ الشعب، وهوسها بتاريخ المخزن والسلطة على حساب التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.
ما المقصود بمؤرخ المملكة أو مؤرخ البلاط؟ هل هو مؤرخ السيرة الذاتية للسلطان؟ أي أنه مؤرخ حياة وأعمال الملك. أم انه مؤرخ المملكة؟ وهنا يجب تفكيك لفظ المملكة، هل تعني المملكة “المؤسسة الملكية” باعتبارها “الدولة\المركز” التي تحكم وتسير وتبسط نفوذها على كل المساحة التابعة لسلطة المركز أم أن مؤرخ المملكة هو مؤرخ الدولة المغربية؟ وظيفته تأريخ التاريخ المغربي، ومفهوم الوظيفة هنا يحيل على انتماء مؤرخ المملكة لسلك الوظيفة العمومية، وباعتباره موظفا يتقاضى راتبه من المال العام، فهو يخضع أو يجب أن يخضع لقانون الوظيفة العمومية، بأداء واجباته، التي هي وظيفة وأدوار ومهنة المؤرخ.
الدارس للتاريخ الممتد والعميق للمغرب، سيكتشف حضارة كبيرة تنهار اليوم، يكفي أن نشير إلى قوة هذه الحضارة، في إنجازها بإسبانيا إرثا حضاريا هو أساس الاقتصاد السياحي الإسباني اليوم.. حين نقرأ في صفحات التاريخ عن وقائع الصراع على السلطة والدسائس، وعن الحياة العلمية، وسير العلماء، والفقهاء والشعراء والأطباء والمعماريين والحرفيين.. الأحرار والعبيد.. وعن تاريخ النضال من أجل التحرر والحرية والكرامة.. وأنهار من دماء الشهداء.. كلها وقائع خصبة ومغرية لمسلسلات وأفلام سينمائية وتوثيقية، لو أنجزتها “مؤسسة مؤرخي المغرب” أو “رابطة مؤرخي المغرب” عبر فريق من المؤرخين، لساهمت في إنقاذ الحضارة المغربية اليوم من الانهيار المنتظم.. الحضارة المغربية تنهار تباعا، لعدم كشف حقيقة التاريخ المغربي، وبالتالي إعادة إنتاج التاريخ الانتقائي، تاريخ دولة المساحيق، علما أن تكنولوجيا الأزمنة المعاصرة، بمواقعها التفاعلية، ومنصاتها التواصلية، جعلت بإمكان كل فرد يمتلك هاتفا ذكيا “مؤرخ عفويا” يوثق بالصوت والصورة لموت امرأة حامل رفقة وليدها أمام بوابة المستشفى، والتوثيق لتعنيف العاطلين أمام المؤسسة البرلمانية التي تشرع القوانين.. والتوثيق لموت رجال الخبز الأسود داخل بطن مناجم فحم متآكلة..
الآن تبرز المسؤولية الكبرى التي يتحملها “المؤرخ” إنها “أمانة” وليست مجرد وظيفة، أمانة تجاه التاريخ السحيق لمجهودات الحضارات المتعاقبة على المغرب، والتي تشكل مفهوم الحضارة المغربية، وأمانة لحماية هذه الحضارة اليوم (الحاضر) من أجل المستقبل.. الحضارة المغربية اليوم تعيش نزيفا حادا، بعدما خابت الآمال في مغرب ديمقراطي، البيت الدافئ لكل المغاربة، وتكريس المفهوم المخزني للمواطنة، “المواطنون الأعيان” أو “المحميون الجدد” الذين يراكمون “الرأسمال” اعتمادا على العلاقات والولاءات المخزنية، وليس الكفاءات والاستحقاقات والإنجازات..
هؤلاء “الإقطاعيون الجدد” هم قلة لكنهم يمتلكون سلطة القرار، ويستطيعون التأثير على حياة الجماهير، بتعبير المؤرخ الفرنسي بروديل، وبما أنهم يفتقرون إلى الكفاءة والتمكين، فإن قراراتهم هي الطريق السريع إلى المآسي والجحيم.. مآسي التفقير، مآسي التعليم، مآسي الصحة، مآسي السكن، ومآسي الفساد والمفسدين.
لقد أنجز علم التاريخ ثورة كوبرنيكية في مناهجه ومفاهيمه وأدواته البحثية.. يكفي أن نشير إلى الإنجازات الكبرى التي راكمتها الدراسات التاريخية في فرنسا، مع مدرسة الحوليات ومدارس التاريخ المعاصر بمراكزها البحثية ومختبراتها الدراسية الأكاديمية والمستقلة، ومجلاتها ودورياتها الورقية والإلكترونية، مع الإفادة من الثورة المعلوماتية الذكية، من خلال الثراء المتنوع للندوات والمناقشات التي تمس أهم القضايا التاريخية، وتشعب المباحث التاريخية، وهو ما يجعل التاريخ شريكا فعالا في التقدم وحل الأزمات.
لم يعد اليوم بإمكان المؤرخ أن يقوم بدور تجميل الدولة، مع تقنيات تكنولوجية ذكية لتصوير وتوثيق الوقائع وبثها في الحين، لا يمكن طمس حقيقة أزمة السكن في حين أن فيديوهات كثيرة توثق لهذه التراجيديا في مختلف المناطق المغربية، بل في ضواحي العاصمة، ومثال بسيط محنة قاطني البراريك بمنطقة سلا.. تيفلت، براريك تنعدم بها أبسط شروط السكن اللائق، ومأساة رحلةِ الذهاب والإياب بحثا عن الماء؟؟ كيف سيكون إحساس تلك الطالبة التي تدرس الحقوق بالرباط، حيث الفنادق الفاخرة، والسيارات الفارهة، والمطاعم الدولية، والسفارات الأجنبية..وهي تشد طريق العودة إلى الأسرة في عالم البراريك والخلاء والشقاء؟؟
هل سنؤرخ للأجيال القادمة بأنه كان لنا السبق في علاج الأمراض العقلية والنفسية، داخل مارستانات استثنائية، بزخارفها العجائبية وحدائقها الفردوسية، حيث المجانين والمصابون بالأمراض النفسية يشرف على علاجهم أطباء أكفاء، ويتم الترويح على المرضى بالموسيقى الأندلسية، في القرن الخامس عشر ميلادية، وأننا كنا النموذج الذي اقتدت به الدول الغربية، وغيرها من الفرقعات اللفظية؟؟؟ في حين أن الآلاف من الفيديوهات اليوم توثق لتراجيديا المرضى مع دار الصحة المغربية؟؟؟
وقائع الفساد الشامل، العنف، المخدرات، الاغتصاب، رداءة التعليم، انحدار منظومة القيم.. الإنسان الغربي يقرأ في القطار، في الحافلة، في المقهى، في الحديقة.. في مغرب اليوم الذي سيصبح تاريخا لا يمكن حذفه او تزييفه، أحداث العنف والاغتصاب ترتكب في القطار، في الحافلة، في المقهى، في الحديقة.. وهذه المفارقة تكشف أهمية نشر الحقيقة وأهمية التنوير في حياة الشعوب.
التاريخ هو “ذاكرة الشعوب”.. حين تملأ “ذاكرةً” بموسيقى جميلة، ستستمع وتتمتع بهذه الموسيقى الجميلة أنت وكل من يمتلكون هذه الذاكرة الجميلة.. وحين تشحن “الذاكرة” بالبشاعة والرداءة، فلن تنتج إلا القبح.. هكذا فالمؤرخ الحقيقي هو صاحب مشروع تربوي عملاق، والتربية على الحقيقة التاريخية هي التربية على قيم الجمال، أما التربية على تزييف الحقيقة هي تربية على الكذب والرداءة، وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني كانط، يعتبر قول الحقيقة واجبا مقدسا، مؤكدا أن التزوير والكذب تهدم أسس التعايش بين الأفراد.
لهذا يجب إعادة الاعتبار للتاريخ، والمصالحة مع التاريخ المغربي تبدأ بالقيام بمراجعة شاملة لما لحقه من أكاذيب وتزييف، وإعطاء الأولوية لتاريخ الشعب أو ما يسميه المؤرخ بلوخ بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي، لا حصر التاريخ في الوقائع السياسية فقط، وضرورة الانكباب على تاريخ الهوامش والمهمشين، من خلال الاستعانة بحقول العلوم الإنسانية بمختلف روافدها والعلوم الجغرافية، وغيرها من المكتسبات العلمية والمعرفية، إذ لا يمكن للمؤرخ أن يعرف الوقائع الاجتماعية لزاكورة وتونفيت وغيرهما من تخوم المغرب العميق، دون علم بالجغرافية والمناخ والثقافة المحلية.. وسيعرف المؤرخ أنه كان بالإمكان تفادي حراك الريف، لو كشف عن حقيقة حجم الفساد الذي أفاض كأس الصبر ودفع المواطنين للاحتجاج والتظاهر ضد الفساد والمفسدين.
أهم درس نستخلصه من تجربة المؤرخ مارك بلوخ أن وظيفة المؤرخ هي كشف الحقيقة، والحقيقة غير منفصلة عن قيمتها الوجودية من أجل الحق في العيش الكريم، ونشر قيم العدل، وهذا ما قاله المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون أن العدل أساس العمران، لذا يجب الكشف عن التاريخ المغربي الحقيقي والتعريف بالمؤرخين المغاربة وهم كثر، الناصري، عبد الواحد المراكشي، الأفراني، أبو القاسم الزياني، عبد الرحمان بن زيدان.. عبد الله العروي.. وغيرهم كثير.. ومراجعة تأريخاتهم دون تساهل أو تحامل.
إن طمس التاريخ المغربي، والإصرار على دفنه، يؤكد مدى إصرار المخزن على نشر “الجهل” جهل المواطنين، بتاريخهم، بغية فصل الشعب على جذوره، وكل شعب تُقطع جذوره حتما سيموت، و”علم الجهل” agnotologie حسب مؤرخ العلوم الأمريكي روبرت بروكتر Robert Proctor، ليس مجرد خطأ في المعرفة، بل هو إنتاج معارف خاطئة مزيفة لتضليل الجماهير، خصوصا حين تكون “الحقيقة” سلاحا يهدد مصالح الطبقة الحاكمة.. حينها يتحول المؤرخ المزيّف إلى “ماسح أحذية” مهما لمّعها بإتقان ستدوسه وتسحقه بلا رحمة، وتلقي به في مزبلة التاريخ.. لأن وظيفة المؤرخ هي كشف الحقيقة لا تجميل المآسي.
(سيرياهوم نيوز-رأي اليوم 25-2-2021)