- زهراء فارس
- الإثنين 6 كانون الأول 2021
- 21:28
مرّ نصف يوم ونحن عالقون على معبر أبو عاصي، قرب مدينة الطبقة في ريف الرقة الجنوبي الغربي، من دون أيّ مؤشّرات إلى احتمال أن يسمح لنا المسؤولون عن الحاجز بالعبور. نحن فريق صحافي مكوّن من ثلاثة شبّان وأنا، توجّهنا أواخر شهر تشرين الأوّل، إلى مناطق «الإدارة الذاتية» الكردية، بعدما حصلنا، بصعوبة بالغة، على موافقة «مديرية الإعلام» في المجلس التنفيذي لـ«الإدارة الذاتية»، لتصوير حلقة حول حقبة «داعش» في المنطقة. عند المعبر، تنتشر كاميرات المراقبة في كلّ زاوية. لا أحاديث زائدة. يخاطب عناصر الأمن والشرطة الأكراد بعضهم البعض بنداء «هافال»، الذي يعني «الرفيق». في اليوم الثالث، مُنحنا إذن الدخول عند النقطة الرقم صفر، وفي النقطة الرقم واحد جرى تفتيشنا ومنحنا بطاقات تمكّننا من الدخول إلى «إقليم الرقّة» والبقاء فيه لمدّة ثلاثة أيام فقط. ثم انتقلنا إلى النقطة الأخيرة على المعبر، وهي الجمارك، حيث صرّحنا عمّا معنا من معدّات.
بعد العبور باتجاه الطبقة، أوّل ما تشاهده هو صوامع القمح الضخمة المعروفة بـ«صوامع البوعاصي»، ثمّ سدّ تشرين ومحطّات توليد الكهرباء، وجسورٌ دمّرها طيران «التحالف الدولي». في المساحات الشاسعة الممتدّة أمام أنظارنا، خِيَم ومنازل متباعدة، انزرعت كشواهد القبور. وعلى جانبَي الطريق، أعلام ولافتات ترحّب بنا في «إقليم الرقة». هنا الرقّة إذاً، عاصمة السياسة الكردية، وعُقدة أقاليمها السبعة. أعلام «الإدارة الذاتية» في كلّ مكان، والساحات والمدارس تحمل أسماء وصور فتياتٍ كرديّات قُتلن خلال الحرب. أمّا عناصر «الأسايش»، فهم ملثّمون على المعابر، وكذلك داخل المدينة. ورغم حصولنا على إذن مسبق من «مديرية الإعلام»، إلا أن ذلك لم يكن كافياً تماماً لتجاوب العسكريين في الداخلية معنا. لا أحد هنا مستعدّ لأن يتحمّل مسؤولية المساهمة بتسهيل عملنا. الجميع يخافون من «الأسايش»، فهي بحسبهم «لا تعترف بالموافقات الممنوحة، وقد تقرّر في أي لحظة إحالة الجميع إلى التحقيق أو حتى الاعتقال المفتوح».
أخيراً، وبعد أخذ ورد، وقُبيل ساعتين من حلول الليل، سُمح لنا بمباشرة العمل. تجوّلنا في شوارع الرقّة، وكنا نخفض الكاميرات والهواتف المحمولة، عند كل نقطة لـ«الأسايش». في المدينة، كان الدمار الكثير يقابله ورشات إعمار وإعادة تأهيل كثيرة أيضاً. لكن رغم كل الجداريات الضخمة والإعلانات الطرقية المفعمة بالألوان، ورغم أن المدينة تعيش اليوم أجواء ذكرى تحريرها من تنظيم «داعش»، إلا أن ذلك لا يعكس سوى انفصال متعمّد عن الواقع الذي تعشيه المدينة وأهلها، حيث ترتدي معظم النساء النقاب، ويطلق معظم الرجال لحاهم. في حين تأسرك نظرات القلق والترقّب الظاهرة على وجوه الجميع، وكأنما ثمّة خطراً تحسّه وشيكاً، لكنك لا تراه. تعيش المدينة ليلاً في شبه استنفار أمني. وفي تلك الليلة التي قرّرنا أن نقضيها في المدينة، كان الجوّ بارداً. سهرنا مع ثلاثة شبان من الرقة، تبادلنا أحاديث في السياسة والحرب ومستقبل البلاد، وتفاصيل حياتيّة مجهولة لشبّان خبِروا جولات طويلة من المعارك. توقفت المعارك المباشرة اليوم، لكنّ حمَلات التجنيد والخدمة الإلزامية المستمرّة، ضمن صفوف «قسد»، أثقلت كاهل الجميع هنا. وبينما نحن نتحادث مع الشبان الثلاثة، الذين يعبّرون عن إرهاقهم مما آلت إليه أحوال المنطقة، وعن تشوّقهم لرؤية بقية المدن السورية، وخصوصاً دمشق التي غابوا عنها منذ بداية الحرب، تخرق المسامع أصوات الحفلات الليلية الصاخبة بأغانٍ تحيّي «الديموقراطي» (الحزب الديموقراطي الكردستاني)، مع مؤثّرات صوتية صاخبة لأصوات تفجيرات ورشاشات الدوشكا!
مع شروق شمس اليوم التالي، أُبلغنا بأن تحقيقاً فُتح بخصوصنا من قبل جهة لم يسمّها أحد. تحقيق أوّل، ثم تحقيقٌ ثانٍ، ثم أُبلغنا بأنّه لن يسمح لنا بالعمل مجدداً، وأنه كان يتعيّن علينا المغادرة منذ أمس. لاحقاً، طُلب منا أن لا نتحرّك مطلقاً من مقر إقامتنا، وأن «العين باتت علينا». في تلك اللحظة، أخذنا قرارنا بضرورة المغادرة فوراً وسرّاً. وخلال لحظات قليلة، كنا ننزل إلى الشارع، وأوقفنا أوّل سيارة أجرة صادفناها، مباشرة: «نحو المعبر»! بعد انطلاقنا، أُبلغنا بأن وحدة من «الأسايش» في طريقها إلينا حيث كنا نقيم. مرّت بضع دقائق ونحن في سباق؛ سيارتنا نحو المعبر والدورية باتجاه الفندق. وحين تبيّن للأخيرة أننا قد غادرنا، بدأت الاتصالات تنهال على هواتفنا، والجميع يسألون عن وجهتنا. كان الخوف قد تملّكنا بشكل كامل. ومن دون توقّف، كنا نسير نحو المعبر. وصلنا معبراً ينفذ من الطبقة باتجاه مناطق سيطرة الجيش السوري. سارت إجراءات المغادرة بسرعة عند المعبر وبلا تفتيش. في خلال دقائق، اجتزنا النقطة الأخيرة من مناطق سيطرة «قسد»، نحو أوّل نقطة للجيش السوري. كان عبورنا إفلاتاً من مصير مجهول ينتظرنا. وأيّ مصير؟ إذا كان الشبان الذين التقيناهم في الرقة يعيشون المعاناة، فكيف بنا إذا ما كنا «غرباء» ومحتَجزين؟!
هو يوم واحد قضيناه في منطقة الشرق الشاسعة. لكنه كان يوماً طويلاً بلا شكّ، تلمّسنا فيه بأنفسنا السطوة البالغة للجناح العسكري والأمني (المرتبط بالقوات الأميركية) على المدنيّين (الأكراد والعرب)، والمؤسّسات المدنية والرسمية. كذلك، كان واضحاً سوء التنسيق بين الإدارات، والذي سببه الأساسي النظام الفيدرالي المشوّه، والاستقلال الذاتي للمديريات والأقاليم والإدارات. ورغم أن مناطق «الإدارة الذاتية» تُظهر انسجاماً ظاهرياً، إلا أنها تنطوي على ديناميات قابلة للتفجّر، كخلافات وصراعات كردية ــــ كردية، وكردية ــــ عربية، وأخرى قبلية وعرقية ودينية وثقافية. لا تزال تجربة «الإدارة الذاتية» تثبت هشاشتها. فلا هي قادرة على دفع الاجتياح التركي للأراضي التي تسيطر عليها، ولا على دفع المخاطر عن أهلها. كما هي ليست قادرة على إقناع المكونات كافة الموجودة هناك بـ«حقّها» في الاستقلال عن الدولة السورية. كذلك، هي غير قادرة على التخلّص من السطوة الأميركية التي تمنعها من الاتفاق مع الحكومة السورية. في الخلاصة، إن كل أسباب بقاء «الإدارة»، وصمودها حتى الساعة، هي أسباب غير عضوية، تتلخّص في بقاء الاحتلال الأميركي. وعند زواله، ربما لن يبقى للإدارة أيّ أثر.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار7-12-2021)