لم يكن للعراق من أمل كبير في العودة عن حافّة فتنة الاقتتال الشيعي – الشيعي، والتي بدت أمس فقط حتمية، إلا بالطريقة التي انتشله فيها مقتدى الصدر منها، مُقدِّماً نفسه كأب روحي للعراقيين يستطيع فعل ما لا يستطيعه الآخرون في اللحظات الحرجة، على رغم اتّهامه بأنه هو مَن أوصل الأوضاع إلى هذا التأزم في المقام الأول. وكان بدا بالفعل أن قوى “الإطار التنسيقي” التي سعت إلى تجنّب الاقتتال، لن يطول بها الأمر قبل أن تُدفع مرغمة إليه، وإن كانت سلسلة ظروف أخرى داخلية وخارجية قد أسهمت في عدم وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة، بالتالي في النتيجة الطيبة التي انتهت إليها الأحداث، على رغم المأساة التي مثّلها سقوط هذا الكم من الضحايا. على أن ما ينتظر العراق في المرحلة المقبلة لن يكون أيسر من “القَطوعات” التي مرّت بها البلاد إلى الآن، حيث ستجد القوى السياسية نفسها أمام مأزق متجدّد، مع معطى إضافي متمثل في تمسك الصدر باعتزال السياسة، الأمر الذي يعني ضيق الخيارات أمام تلك القوى، في ظل اضطرارها الحتمي لمراعاته وجمهوره في الخطوات التي قد تُقدِم عليها
قلما شهدنا في الأزمات التي تدور في هذا البلد أو ذاك من بلدان العالم، شيئاً شبيهاً بما حدث في العراق خلال اليومَين الماضيَين. كيف لبلد أن يعود بهذه السرعة من حافة الفتنة، أو حتى من أتون الفتنة نفسه، إلى جادة البحث عن حلول سياسية لأزمته، بمعزل عن صعوبة هذه الحلول؟ لا تفسير لذلك إلا وجود رجل مِن مِثل مقتدى الصدر، لا يخلو من ما يبدو أنه «تقلب» سريع في المواقف، على رغم أن هذا التقلب يمكن أن يفرضه التعامل الطبيعي مع الأحداث، ولا سيما لناحية تطوراتها غير المتوقعة التي تفرض انعطافات حادة.
مما لا جدال فيه أن مقتدى يملك تأثير «السحر» على أنصاره، وهو «سحر» لا ينفك يزداد مع المواقف الجريئة التي يتخذها، والتي تعكس في نظر هؤلاء صدقاً واستقلالية في القرار، ما يجعلهم يطيعونه طاعة عمياء، بحيث يستطيع دفعهم إلى الانسحاب من وسط معركة سقط لهم رفقاء فيها قبل ساعات أو حتى دقائق قليلة، انسحاباً تاماً، في أقل من مهلة الستين دقيقة التي منحهم إياها لفعل ذلك. وعلى رغم أن الرجل يستند إلى تراث كبير يمثله ظل الشهيدَين الصدرَين، والده آية الله محمد محمد صادق، وعمه آية الله محمد باقر، إلا أنه هو نفسه يملك كاريزما ما عاد يمكن إنكارها، تستجيب لأكثر ما يفتقده العراقيون الغارقون في بؤس غير متناسب مع الثروات الهائلة للعراق، وإنما المنهوبة، من خلال الإصرار – بمعزل عن مدى صدقية هذا الطرح – على العمل لإنهاء الفساد، حيث نجح في إظهار نفسه بوصفه الأكثر استشعاراً للمظالم التي يعاني منها مواطنوه، من بين كل رجال السياسة الذين طاولت معظمهم لوثةُ الفساد، ما أساء إلى القضايا التي يطرحونها، حتى لو كانت مُحقة.
بهذا المعنى، ما قام به مقتدى سيزيد في رصيده الشعبي على الأرجح، ويجعله طرفاً لا يمكن القفز فوقه أو تجاوُزه في أي شيء يتعلق بمستقبل العراق، حتى لو كان معتزلاً السياسة، وفق ما أظهرت استجابة القوى السياسية العراقية للطريقة التي أخرجها الرجل بها من هذه الورطة الجماعية. وأكثر من ذلك، وربما هذا أكثر ما يطمح إليه الرجل، فإن ما حصل قد يضعه على طريق احتلال أحد مواقع المرجعية السياسية، التي لا يخفى تطلعه إلى أن يضيف إليها، يوماً ما، امتياز تمثيل مرجعية دينية، على رغم أنه لا يدعي امتلاك متطلباتها حتى الآن، وفق ما أظهره سجاله القصير مع المرجع المنسحب آية الله كاظم الحائري، قبل أن يعود ليؤكد الامتثال «لأمر مرجعِي السيد الحائري». هنا، لا يصب التقلب في مصلحة مقتدى، فالالتزامات الدينية لا تتغير بين ليلة وضحاها. وقد يكون الرجل خلُص فعلاً إلى أن التأثير في مسار الأحداث من خارج الصراع السياسي اليومي المباشر ممكن أكثر في بلد كالعراق، تسمع فيه الناس كلمة رجال الدين أكثر مما تسمع كلمة السياسيين.
ما قام به مقتدى سيزيد في رصيده الشعبي على الأرجح، ويجعله طرفاً لا يمكن تجاوزه
يبقى السؤال الأساسي، هو ما الذي سيحصل غداً؟ وهل ستُستأنف الحياة السياسية بغياب «التيار الصدري» وكأن شيئاً لم يكن؟ قد يدغدغ هذا مخيلة بعض القوى في «الإطار التنسيقي»، لكن الأطراف الرئيسة في الإطار تدرك أن ما جرى ستكون له آثار عميقة ليس على وضع «الصدري» فقط، وإنما على وضع «التنسيقي» أيضاً باعتبار أن ما سيكسبه مقتدى، سيخسره الإطار، والعكس صحيح؛ إذ ستظل العلاقة تنافُسية بين الطرفين ولو من دون عنف. وحتى إذا اعتزل الصدر السياسة، فإن جماهيره لن تختفي، وستظل لها حركتها التي من خلالها تتفاعل مع الأحداث. ومن هنا، يقتضي المنطق أن تُحول قوى «التنسيقي» ما جرى إلى فرصة، لا سيما وأنها أسهمت بشكل كبير في تجنب الانزلاق إلى فتنة، عندما لم تنجر فوراً إلى مواجهة مع أنصار الصدر، وتركت القوى الأمنية تقوم بواجبها من خلال فرض حظر التجوال ومشاغلة المتظاهرين الذين أسقطوا مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى. وتحقيق ذلك، يتطلب من الإطار تجديد خطابه لملامَسة هموم الناس.
أداء القوى الأمنية أيضاً كان مختلفاً هذه المرة، وهي التي كثيراً ما يقال إن الأميركيين الذين أعادوا بناءها منذ حل الجيش العراقي بعد الاحتلال في عام 2003، يملكون تأثيراً كبيراً فيها، بخاصة بوجود شخص مثل رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي في موقع القائد العام للقوات المسلحة – وهو نال، مع «الحشد الشعبي»، إشادة الصدر نفسه -. ففي المبدأ، وبالحساب البسيط، لا مصلحة للأميركيين حالياً في تأجيج النار في بلد ينتج أربعة ملايين برميل نفط يومياً، وهم يكادون يخسرون حرب أوكرانيا بسبب الارتفاع الذي تسببت به في أسعار النفط. وفي المقابل، عكَس الإعلام الخليجي، حتى الرسمي منه، مصلحة لبعض أنظمة الخليج، وبخاصة في السعودية والإمارات، في تأجيج نار الفتنة. بل يمكن الذهاب إلى السؤال عما إذا كانت تلك الأنظمة، وبالتفاهم مع إسرائيل، تريد هذه المرة تفجير العراق في وجه أميركا وإيران معاً، لا الأخيرة وحدها، في إطار الضغط الذي تمارسه على واشنطن، لعدم إحياء الاتفاق النووي مع طهران.
ما فعله مقتدى لن يؤدي إلى نهاية سريعة للأزمة العراقية المركبة، إلا أنه سيغير دينامية الصراع، ولن يكون ما بعده كما قبْله. ربما يسهل ذلك الذهاب إلى انتخابات جديدة، كانت الأطراف قد اتفقت على أنها تشكل الحل المناسب للأزمة، إلا أنها اختلفت على آلية إجرائها، بما يشمل قانون الانتخابات، والجهة التي ستشرف عليها. وفي هذه الحالة، يمكن للصدر أن يشارك بتياره بعد أن يعود عن الاعتزال السياسي، كما فعل في مرات سابقة، أو أن يشكل مظلة لمشاركة من نوع آخر بعيدة من الأطر التنظيمية وتستند إلى الولاء الديني، وحينها قد يجد ضالته في التأثير الذي سيمارسه على الحياة السياسية العراقية، من النجف التي قال إنها ستبقى في كل الأحوال المقر الأكبر للمرجعية.
هل يريد الصدر أن يصبح مرجعاً؟
خلْف الأحداث الدامية التي شهدها العراق في اليومين الماضيين قبل أن تهدأ الأوضاع، ربّما تقف كلمة مفتاحية، هي «المرجعية». فالأحداث بدأت ببيان بدا أن مقتدى الصدر استعجل إصداره، وانتقد فيه المرجع آية الله كاظم الحائري، الذي كان قد أعلن في اليوم نفسه تخلّيه عن ممارسة مهامّ المرجع، طالباً من مُقلّديه، والكثير منهم أعضاء في «التيار الصدري»، تقليد مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران، آية الله علي الخامنئي. رأى مقتدى أن ما ساقه الحائري من انتقادات ضدّه في بيان التخلّي، لم يكتبه بمحض إرادته، موحياً بأن إيران هي من طلبت منه ذلك. وبعدما طلب الصدر من أنصاره الانسحاب من «المنطقة الخضراء» وإنهاء الاعتصام و»كلّ شيء»، عاد ليؤكّد «أنني ألتزم بمرجعي السيد الحائري».
وحملت مواقف الصدر بعد ما حقّقه من مكاسب في الانتخابات التي جرت في تشرين الأول الماضي، الكثير من المراقبين على الاعتقاد بأنه يطمح إلى أن يصبح أحد مراجع الشيعة في العراق والعالم، ليرث مكان والده الشهيد محمد محمد صادق الصدر، إنّما بعد أن يكمل علومه الدينية، حيث كان يقوم بالبحث الخارجي في إحدى حوزات قم، وهي مرحلة متقدّمة من التعليم الديني. في المبدأ، لا مشكلة أمام أيّ شخص في أن يستكمل علومه ويصبح مرجعاً مقلّداً إذا استوفى الشروط المطلوبة لذلك. لكن الصدر كان سيأتي إلى المرجعية من عالم السياسة، وفي هذه الحالة، سيظنّ كثيرون أن النية وراء ذلك هي أن يكون الجانب الديني في خدمة السياسي، أي أن يكون المقصود ممارسة حُكم العراق من موقع المرجعية.
وما زاد هذه الشكوك هو سلوك الصدر نفسه، وبعض مساعديه. ويمكن، في هذا الإطار، تسجيل قول أحد مساعديه الكبار، حازم الأعرجي، قبل أشهر، إن القرار يَصدر في الحنانة، ما اعتبره مقلّدو المرجع آية الله علي السيستاني هجوماً على المرجعية، فشنّوا حملة على الأخير، الأمر الذي اضطرّ الصدر يومها إلى الطلب من الأعرجي الاعتذار. وفي العلاقة مع إيران أيضاً، قيل كلام كثير عن أن انتقادات الصدر لهذه العلاقة تنطلق من رغبة في أن يشكّل في العراق مرجعية ندّية لمرجعية مرشد الجمهورية الإسلامية.
سيرياهوم نيوز 1-الاخبار اللبنانية