الرئيسية » ثقافة وفن » لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

لماذا انتحر إرنست همنغواي؟

| عماد الدين رائف

ظلّت أسباب انتحار الكاتب الأميركي إرنست همنغواي موضع نقاش. الكاتب السوفييتي هنري بوروفيك يقدّم فيما يلي شهادته عن ذلك، بحكم صداقته بهمنغواي ومقابلته في كوبا قبل عام من الحادثة.

 

تموز/ يوليو هو شهر الكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي، إذ وُلِد في الـ21 منه سنة 1899، وانتحر في الـ2 منه سنة 1961.

 

تعدّدت الفرضيات التي حاولت تفسير خيار الكاتب إطلاق النار على نفسه، وسنحاول هنا الإجابة على سؤال انتحاره في ذكراه الـ62، عبر مناقشة شهادة صديقه الكاتب السوفياتي هنري بوروفيك.

 

على هامش الزيارة الرسمية التي قام بها نائب رئيس مجلس الوزراء السوفياتي، أناستاس ميكويان (1935-1966)، إلى كوبا، في شباط/ فبراير من العام 1960، التقى الكاتب الصحافي السوفياتي هنري بوروفيك (1929) صديقه الكاتب الأميركي الكبير إرنست همنغواي للمرة الأخيرة. تلمّست الباحثة الأدبية أولغا شابلونسكايا، ممّا كتبه بوروفيك من مذكراته ومشاهداته، جانباً من الأسباب التي دعت همنغواي للانتحار بعد عام.

 

يقول بوروفيك: “دعا الجميع إرنست همنغواي “البابا هيم”. عندما كنا عائدَين من الصيد، صاح فتى أميركي يبلغ من العمر نحو 15 عاماً لوالده: “انظر، ها قد أتى سوبرمان!”. بدا همنغواي ضخماً بعيون من هم حوله، سواء في الطول أو الروح. سمّاه كثيرون بلقب البابا. أعتقد أن صيادي كوجيمار هم من أطلق عليه هذا اللقب (ظهر ذلك في مشهد من فيلم “العجوز والبحر”). حسناً، وإلا كيف سينادون السيد همنغواي؟ كان عليهم أن يبتدعوا لقباً يُفهم باللغتين الإنكليزية والإسبانية معاً”.

 

سؤالان أو ثلاثة

يكتب بوروفيك في مذكراته ما يلي: “التقينا همنغواي في عام 1960، عندما قام ميكويان بزيارة رسمية إلى كوبا. بطبيعة الحال، كنت أحلم بأخذ مقابلة منه على انفراد، على الرغم من أنّني كنت أعرف أنّه لا يحبّ إجراء المقابلات. ومع ذلك، كنت آمل أن أتمكّن من طرح سؤالين أو 3 أسئلة على الأقل. أحضر ميكويان 3 زجاجات من الفودكا هدية لهمنغواي. تعامل إرنست مع الأمر بشكل جيد للغاية. أذكر أنّ إحدى الزجاجات كانت هوريلكا بالفلفل الحار (نوع من الفودكا الأوكرانية). أمسكها “البابا هيم” وبدأ يبحث عن المفتاح، إلا أن زجاجات الفودكا السوفياتية كانت تغلق بالفلين الطبيعي. أخذت الزجاجة من يديه وضربت كعبها براحة كفي، فأطار الضغط الفلينة. بدا الكاتب مسروراً، ومن أجل ترك انطباع في المقابل، هزّ الزجاجة، وألقى رأسه إلى الخلف، وسكب ثلثها في فمه، وتغرغر بما تبقى فيه ثم ابتع السائل الحارق. تظاهرت بالسعادة الكاملة، على الرغم من أن طلاب معهد العلاقات الدولية يجتازون ذلك في عامهم الثاني…

 

في نهاية المساء، التفتُّ إلى إرنست همنغواي طلباً للإجابة على سؤالين أو 3، فقال: “سؤالان أو 3، هنري! عندما يهدأ المحيط قليلاً بعد العاصفة سأفعل. سأدعوكم إلى رحلة صيد طوال اليوم”.

 

ذات مرة، كتب صحفيان فرنسيان أنّ همنغواي سرق صياداً قديماً، زعما أنّه أخبره بحبكة “الشيخ والبحر”، وقام همنغواي بصبّ كل شيء في كتاب ولم يدفع للصياد شيئاً”. يتابع بوروفيك: “لم أكن أعرف كل هذا، وقلت بضمير مرتاح: كنت في قرية كوجيمار، وأروني رجلاً عجوزاً قالوا إنّه كان النموذج الأولي لبطلك”. أجابني الكاتب ساخطاً: “لم آخذ منه شيئاً لأكتبه! إنّه صياد عديم الفائدة! لمجرّد الحصول على 5 دولارات من المراسلين، يدّعي أنّه ذلك الشيخ”. هدأ، وتابع: “الشيخ والبحر هو الكتاب الوحيد الذي كتبته بسرعة ويسر. لا أتذكر عدد الأيام، ولكن حدث ذلك بسرعة كبيرة. في الصباح، وقفت قرب مكتبي وانتظرت باهتمام لأرى ما الذي سيفعله الشيخ. لكن قبل ذلك، فكرت في الأمر لمدة 13 عاماً. بمجرّد وقوع ذلك الحادث في كوجيمار، قررت أن أكتب الرواية”. إلا أنّ همنغواي أدرك أنّه لن ينجح، فبدأ في دراسة القرية.

 

تُذكِّرنا هذه اللحظة بقول المخرج المسرحي الروسي الكبير قنسطنطين ستانيسلافسكي (1863-1938): “الممثل الذي يقول كلمتين فقط على خشبة المسرح، يجب أن يعرف كل شيء عن الشخصية”. في الواقع، يجب أن تكون حقيقة العمل الفني أقوى من حقيقة الحياة، فالفنان يجمع كل “الحقائق” التي يصادفها في الحياة، ويأخذ معرفته وملاحظاته ويخلق حقيقته الخاصة”.

 

الالتزام والكتابة

يتابع بوروفيك في مكان آخر: “ذات مرة أراني همنغواي قطعة من الورق خطّ عليها أعمدة مرتبة من الأرقام. أوضح بجدية تامة أن هذه رواية يكتبها. في نهاية كل يوم عمل (كان همنغواي يعمل كل يوم من الخامسة صباحاً حتى الأولى ظهراً)، كان يحسب عدد الكلمات المكتوبة. في المتوسط، كتب إرنست همنغواي بين 700 و800 كلمة يومياً، ولكنَّ أحد أسطر الأعمدة تضمّن الرقم 208 فقط، وإلى جانبه ملحوظة “رسائل عمل عاجلة”. فكّرت آنذاك أنّ الكاتب، ومنذ زمن بعيد، “باع نفسه، وبات عبداً للانضباط الذاتي”، على حد تعبيره. لا شيء يمكن أن يحول بينه وبين العمل. أثناء الحرب الأهلية الإسبانية مثلاً، جلس في مدريد بمفرده في فندق فارغ، تحت القنابل، وكتب رواية “العمود الخامس””.

 

أثناء رحلة الصيد، قال همنغواي لبوروفيك على القارب: “أعرف، سمعتَ أنّي أشرب. أريد أن أشرح لماذا أفعل ذلك. أكتب في الصباح، ثم لكي أتوقف عن التفكير في ما كتبته، أشرب لأستريح قليلاً. يمكنك أن تصاب بالجنون حين لا تتوقف أبداً عن التفكير فيما سيفعله البطل بعد ذلك، وما الذي سيقوله، وبم سيردون عليه”.

 

في عام 1955، سلّم همنغواي عدة مخطوطات مكتملة إلى خزنة البنك، وأمر بنشرها فقط بعد وفاته. لهذا السبب، بدأت تنتشر شتى الشائعات في الصحافة إثر انتحاره. لكن الكاتب أوضح لبوروفيك: “هناك سبب واحد فقط. لا أعرف كم من الوقت علي أن أعيش. يجب أن أفكر في عائلتي، في كيفية إعالة أبنائي الثلاثة وأقاربي بعد وفاتي”. يضيف بوروفيك: “لأكون صريحاً، عندما رأيت همنغواي مع زوجته ماري للمرة الأولى، بدا لي هذا الزواج، بعبارة ملطَّفة، غريباً جداً. بدت مثل عصفور صغير صعب الإرضاء. كانت لدى همنغواي علاقات مع إنغريد بيرغمان، وغيرها من نجمات هوليوود الأخريات. وكانت زوجاته الثلاث السابقات آيات من الجمال. لكن بعد ذلك، عندما تعرّفتُ إلى ماري بشكل أفضل، أدركتُ أنّها صديقة مخلصة جداً له، وأنّها تحبّه حقاً. خلال لقائي معها في نيويورك عام 1966، لاحظت أنّها تستطيع ثني ذراعها اليسرى، ولكن في عام 1960 كانت ذراعها بلا حراك، فقد سحقت كوعها أثناء حادثة سقوط الطائرة. لاحظت ماري نظرتي وابتسمت معلقة: “نعم، أستطيع ثنيها. لكن الأطباء لم يأملوا ذلك”. أنقذ البابا يدها. لعدة سنوات متتالية، صباح كل يوم ومساءه، كان يقوم بتدليكها. كان دقيقاً بشكل ملتزم لا هوادة فيه، ولم يفوّت جلسة تدليك واحدة. قال همنغواي لماري: “كوني شجاعة وآمني بالنصر. سننتصر”. وانتصرا بالفعل”.

 

“إن أسعفني الوقت…”

كان همنغواي ملتزماً، منضبطاً في كل شيء، كان رجلاً قوياً، إلا أنّ مصاعب الحياة تترك ندوباً على المرء، وتتراكم هذه الندوب. حاول همنغواي الانتحار عدة مرات؛ أراد القفز من الطائرة مرة، لكنّه لم ينجح لأنّ بابها لم يفتح. لكن، في عام 1961، تمكّن من ذلك حين أطلق النار على نفسه. ربما كان لديه نوع من الاستعداد النفسي لذلك، فقد أطلق والده النار على نفسه كذلك حين كان في الـ40 من عمره.

 

في نهاية حياته، كان إرنست مريضاً جداً، وكان يشتبه في إصابته بسرطان الدم، أو ما يشابهه من الأمراض. يبدو أنّ هذا التشخيص لم يكن له ما يبرره، لكنّه كان يشعر بالفزع، وكان يعاني من تقرّحات على خده. طلب من بوروفيك: “لا تصورني من هذا الجانب”. كان أصلع. اعتقد الجميع أنّ الشعر يملأ رأسه، إلا أنّه كان يمشّطه من جانب إلى آخر. بعد لقائنا في عام 1960، غادر همنغواي كوبا بسرعة. لم يكن على ما يرام، انتقل إلى إسبانيا، وانتهى به المطاف في مستشفى للأمراض النفسية. إذا أعدتَ قراءة روايات همنغواي وقصصه، تجد أنّ كل أبطالها رجال أقوياء جسدياً، مفتولو العضلات. بالتالي، لا يمكن أن يكون إرنست همنغواي نفسه ضعيفاً.

 

قال لبوروفيك ذات مرة: “الرجل الحقيقي لا يمكن أن يموت في فراشه. ينبغي إما أن يموت في معركة، أو أن يتلقّى رصاصة في جبهته”. قال ذلك، وفعله.

 

ينهي بوروفيك ذكرياته عن صديقه بالقول: “رحلة الصيد تلك كانت الأخيرة في حياة الكاتب، كما أخبرتني ماري همنغواي. فيها سمعت منه عبارة رددها عدة مرات: “إن أسعفني الوقت لذلك”، أو “إن تمكّنتُ وكان لدي وقت”. آنذاك، تبادر لي أنّه يقصد المعنى الحرفي من العبارة. لكن بعد ذلك، في عام 1961، عندما انتحر، ظهر أن لهذه العبارة معنى مختلفاً تماماً.

 

سيرياهوم نيوز3-الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حفر اسمه بأحرف من نور نجماً متلألئاً في سماء الإبداع والتميز … عبد اللطيف عبد الحميد.. عاشق السينما السورية وعلامتها الفارقة … حقق فيلم «رسائل شفهية» نجاحاً جماهيرياً كبيراً سيبقى في ذاكرة السوريين طويلاً

وائل العدس   كان عاشقاً للسينما حد الثمالة، تعامل معها كامرأة وحيدة في حياته، أعطاها كل جهده، لم يبخل عليها بشيء، فنجح في حفر اسمه ...