آخر الأخبار
الرئيسية » حول العالم » الدورة 78 للنفاق الدولي في نيويورك

الدورة 78 للنفاق الدولي في نيويورك

د. عبد الحميد فجر سلوم

من المعروف أن الجميعية العامة للأمم المتحدة، وفي آخر تعديل بسيط للنظام الداخلي، في شباط/ فبراير 2023، تعقِد كل سنة دورة واحدة عادية تبدأ يوم الثلاثاء من الأسبوع الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر.. حيث يتم انتخاب رئيس الجمعية لمدة عام، وتحديد جدول الأعمال وتوزيعه على اللجان كلٍّ حسب اختصاصها، وهي ستُّ لِجان، وكل لجنة تضم ممثلي كافة الدول الأعضاء.. ويُحدِّدُ الفصل الرابع من الميثاق كل وظائفها وسلطاتها.. واليوم يبلغ عدد أعضائها 193 دولة، مع عضوين مُراقبَين، وهما دولة فلسطين، ودولة الفاتيكان.. وهي بمثابة برلمان دولي، ولكل دولة فيها صوتا واحدا، مهما كانت صغيرة..

وهذا ما لا يروقُ للدول الكُبرى، ولم يرُق لمندوبة الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات (جين كيرك باتريك) حيث لم تستوعب كيف يكون لجزيرة (غرينادا) صوتا كما الولايات المتحدة، وهي من غزَت غرينادا واحتلتها، أو ابتلعتها، بغضون ساعتين في عهد رونال ريغان..

ومن ثمّ تُفتَتَح المناقشة العامّة  في قاعة الجمعية لمدّة أسبوع، يوم الثلاثاء من الأسبوع الرابع من ذات الشهر، بعد أن كانت في الأسبوع الثالث، حيث يحضُر رؤساء الوفود من رؤساء دول وحكومات وملوك، ووزراء خارجية.. الخ.. ويستعرضون التضحيات المُزيّفة لأجل شعوبهم ولأجل البشرية..

ويُعقَد على هامشها ندوات أو مُنتديات سياسية دولية رفيعة المستوى حول قضايا التنمية، والسياسة، والصحة وغيرها، واجتماعات إقليمية للمجموعات الجغرافية، واجتماعات وندوات عديدة.. فضلا عن لقاءات كثيرة بين رؤساء الوفود ووزراء الخارجية..

وعادة ما يُقدِّم الأمين العام للأمم المتحدة تقريرا شاملا عن كل أنشطة الأمم المتحدة خلال العام، وعن كل القضايا والأزمات والمسائل الدولية.. ويفتتح أعمال الجمعية بكلمةٍ منه..

ثم تبدأ كلمات رؤساء الوفود، وأول كلمة تكون كما العادة لرئيس الدولة المُضيفة، أي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..

**

الظروف التي تنعقد فيها هذه الدورة 78 ، ليست بأحسنِ حالٍ من سابقاتها.. حيثُ الحروب والنزاعات، والكوارث المناخية الطبيعية من فيضانات وزلازل وأعاصير، وبراكين.. وحيثُ الفقرُ والأمراض والظلمُ والتمييز والعنصرية، وكراهية الأجانب، وانعدام الأمن الغذائي في دولٍ عديدة.. فضلا عن الإحتلالات التي لم يكُن باقٍ منها في العالم سوى إحتلال إسرائيل للأراضي العربية، واحتلال تركيا لشمال قبرص. ولكن للأسف نشهد عودة للإحتلالات، كما الإحتلالات التركية والأمريكية في سورية..

بل ونرى شريعة الغاب في كل مكان.. والقوي يفترس الضعيف.. أو يُهيمن عليه..

ويُضافُ لكل ذلك الهجرة الواسعة من أبناء الجنوب، حيث الدول النامية التي يسودها الفساد، إلى دول الشمال للبحثِ عن مستقبلٍ لهم افتقدوهُ في بُلدانهم..

**

في أول دورة حضَرتُها حينما كنتُ عضوا في وفد بلادي أوائل الثمانينيات، كانت الدورة 37 ، وتمّ تكليفي بأعمال اللجنة الثانية المعنية بالمسائل الإقتصادية والمالية، وكان على جدول الأعمال ثلاثة بنود مهمة جدا لنا، وهي:

بندا حول تقديم مساعة مالية لِلبنان، وبندا حول السيادة على  الموارد الوطنية في الأراضي العربية المحتلة، وبندا يتعلق بالأحوال المعيشية للشعب العربي الفلسطيني تحت الاحتلال..

ما حصل بيني وبين مندوب إسرائيل من مُشادّات خلال مناقشة تلك البنود، كان غير مسبوق..

الأمر الذي دعا وفد الولايات المتحدة بتوزيع مُذكّرة رسمية ضدي واعتبارها إحدى وثائق الجمعية العامة للدورة 37 ، بسبب الكلمات والعبارات التي استخدمتُها ضد المندوب الإسرائيلي، والذي استحقّها لشدة وقاحتهِ وأكاذيبه.. (وهذه موجودة للتاريخ) .. فهو حمّل سورية مسؤولية كل شيء في لبنان.. ويعتبر الجولان جزءا من أرض إسرائيل، ولهم الحق في السيادة على مواردها.. ولا يعتبر الإحتلال مسؤولا عن أي أوضاع معيشية قاسية للشعب الفلسطيني.. ولذلك كان لا بُدّ من تلك الصِدامات الحامية جدّا..

وزاد الطين بِلّة المقال الذي نشرَتهُ صحيفة (نيويورك بوست) بقلم مايكل بِرلِن، ضدي أيضا، وبالإسم (وما أزالُ أحتفظُ بصورة عنه) الأمر الذي حرّض على إرسال عشرات رسائل التهديد من المنظمات اليهودية لي وإلى عنوان الوفد السوري.. وهذا ما دعا السفير حينئذٍ لاستدعاء أحد المسؤولين عن حماية أمن البعثات والدبلوماسيين، وتسليمه تلك الرسائل.. وإبلاغه بكل التفاصيل(بحضوري طبعا)..

لم  يكُن حينها كل هذا التقدم التكنولوجي بوسائل التواصل الإجتماعي، ولا هذه الفضائيات، ولذا لم يكُن أحدا يسمعُ بِما يدورُ في تلك الاجتماعات بشكل مباشر، وإنما فقط عبر مُراسلي الصحُف ووكالات الأنباء، التي لم تكُن تُغطِّي خمسة بالمائة..

حينما عدتُ بأول إجازة إلى سورية، سألني أحدهم، كيف رأيتَ الأمم المتحدة؟.

فقلتُ لهُ إنها كذبة كبيرة بِحجمِ هذا العالم المنافق..

وما زالت الأمم المتحدة كذبة كبيرة بحجم هذا العالم المنافق، ولكن لا بُدّ من وجودها، فهو ضرورة قصوى لهذا العالم، لأنها مُلتقى لكل دول العالم..  وما أعنيه هنا هو الجوانب السياسية في أعمالها، وما يتعلقُّ بالحروب والصراعات والنزاعات الدولية، وخرق ميثاق الأمم المتحدة، والتي تهيمنُ عليها الدولة الكبرى من خلال مجلس الأمن، الذي لم يضمن الأمن في مكان بهذا العالم منذ التأسيس وحتى اليوم..

بل هؤلاء الأعضاء الدائمون هُم سبب الصراعات الأول، والتوترات في العالم..

ولا يمكن أن تستقيم أمور الأمم المتحدة إلا بإلغاء حق الفيتو، وإجراء إصلاح كبير تُصبِحُ فيه الجمعية العامة هي صاحبة القرار فقط من خلال التصويت، إذ أنها بمثابة برلمان دولي، ولكل دولة صوتا مهما صغُر حجمها.. وتصبح مهمة مجلس الأمن متابعة تنفيذ قرارات الجمعية العامّة.. وهكذا فقط يكون لدينا عالَمٌ متعدد الأقطاب..

**

بالتأكيد لا يُمكنُ على الإطلاق إنكار دور المنظمات الدولية والوكالات المُتخصِّصة التابعة للأمم المتحدة.. كما منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة العمل الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومفوضية حقوق الإنسان، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، والأنروا(وكالة الغوث الفلسطينية)، وعشرات المنظمات والوكالات المتخصصة التي لا مجالا لذكرها الآن، في خدمة البشرية..

**

هذه هي الدورة 78 للجمعية العامة، العادية، عدا عن الدورات الاستثنائية، وما زالت الحروب مستمرة، بل وتتّسع رقعتها.. وما زالت الصراعات مستمرة، وتتّسع رقعتها.. وما زال الإرهابُ مستمرا، ويتّسع.. وما زال الفقر مُستمرا، وتتّسع رقعتهُ.. وما زال الظلم والقهر وانتهاكات حقوق الإنسان، وهيمنة القوي على الضعيف، والتكتلات والتحالفات والإنقسامات الدولية، كل هذا ما يزالُ مُستمرّا ويزداد..

وما تزال فلسطين كلها محتلة، ولم تلتزم إسرائيل بقرار واحد من قرارات الأمم المتحدة.. وما زال الجولان السوري مُحتلّا.. وعادت الحرب الباردة بأسوأ مما كانت بُعيد الحرب العالمية الثانية..

وما زال زعماء الدول يحضرون المناقشة العامة للجمعية العامة، وكلٍّ يُزايدُ بضرورة احترام ميثاق الأمم المتحدة، وتطبيق بنودهِ، وهو أول من يُخالفُ الميثاق وبنوده، ويُبرِّر ذلك لنفسهِ..

**

الرئيس التركي كان من بين المتحدثين في أول يوم للنقاشات، وألقى خطبة عصماء في القيم الإنسانية، ومحاربة الكراهية والعنصرية والتطرُّف، واحترام قيم وأديان الآخرين، ومقدساتهم وهوياتهم الثقافية والتاريخية والحضارية والاجتماعية، والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني..

وهو أول مُنتهِك لكل القيم الإنسانية..

نسي أن أكبر عنصرية اليوم هي في تركيا ضد السوريين.. ووصلت إلى درجة ارتكاب الجرائم والقتل..

وأن أكبر انتهاك لميثاق الأمم المتحدة هو احتلال أراضي الآخرين.. وتغيير الهوية الوطنية والثقافية والحضارية، بتتريك السوريين في المناطق التي يحتلها في الشمال السوري.. وتحويل كل شيء إلى هوية تركية، بما فيها اللغة..(وقد كتبتُ عن ذلك كثيرا)..

 فأجيال من الأطفال السوريين الذين في مناطق الإحتلال التركي، بل أولئك الذين يدرسون في تركيا، لا يعرفون اللغة العربية، لغة الآباء والأجداد، ولغة القرآن الكريم..

تحدّث عن فلسطين وأبدى غيرةً مُصطَنعة عليهم، ثم بعدها بساعات التقى رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) وأكّد على ضرورة تعزيز العلاقات بين بلاده وإسرائيل في كافة المجالات.. وعلى تبادُل الزيارات قريبا..

أردوغان هو مثلا لِمنافقي هذا العالم، واكتفيتُ بهِ لأنهُ صورة عن الجميع.. إلا ما رحِم ربّي..

ــ بل حتى نتنياهو يُحاضِر بالقيم.. ويُقدِّم نفسهُ أن بلاده ضحية، بينما هو حقيقة الذئب الذي يفترس الضحية.. لا أحدا يرى الخشبة التي في عينيه.. كما الجمَل الذي لا يرى الحدبَة في ظهرهِ، ولكنه يرى حدبات كافة الجِمال الآخرين..

**

الوحيد الذي كان صادقا في كلامه هو أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي وصّفَ الحالة الدولية على حقيقتها..لاسيما حينما قال: (في الوقت الذي نتحدّثُ فيه لا يزالُ البحر المتوسط يلفظُ جثثا على الشاطئ، ذلك البحرُ ذاتهُ حيثُ يتشمّسُ اصحاب المليارات في يخوتهم الفخمة)..

نعم أصحاب المليارات هؤلاء هُم من نهبوا بلدانهم وأفقروا شعوبهم، واضطرُّوها أن ترمي نفسها في البحار كي تهرب للخارج..

ماذا يدفعُ الأطباء والدكاترة في الجزائر لهجرةِ بلدهم، وهي من أغنى بلدان العالم بالثروات الباطنية من نفط وغاز، عدا عن الموارد الطبيعية الزراعية؟.

ضربتُ الجزائر كمثال فقط.. فدولٌ كثيرة في عالم الجنوب، دولٌ غنية، ولكن شبابها يهربون منها، بسبب الفساد والظُلم والقهر ونهبِ الثروات، والفقر المدقع، وعدم إكتراث حكوماتهم، ومسؤوليهم إلا بأنفسهم، فترى الشخص من أفقر الناس، وبعد السُلطة والمناصب يصبح من أثرى الأثرياء نتيجة استغلال المنصب، وبلا محاسَبة، ودون أن يتغرّب ويعمل سنينا طويلة في الغُربَة، يجمع خلالها بعضا من المال بالكسبِ الحلال..

أو بسبب التسلُّط والقهر، وغياب أدنى حوق الإنسان، والعدالة وتكافؤ الفرص، وغياب كل المعايير المنطقية والموضوعية، فضلا عن العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية والعِرقية، في مؤسسات بعض الدول.. فهذه المجموعة من المذهب الفلاني، وهذه من الطائفة الفُلانية، وهذه من المنطقة أو المدينة الفُلانية، وهذه من القومية الفُلانية.. الخ.. وقد تراهُم يحاربونك ويسيئون إليك فقط لأنك لا تنتمي إلى مذاهبهم ومناطقهم ومُدُنِهم.. وواحدهم قد لا يصل إلى ركبتك في المقدرة على العطاء والكفاءة والمبادرة، والحِوار والإقناع، والغيرة الوطنية، وتحمُّل المسؤولية، عدا عن نظافة اليد والإخلاص والتفاني لأجل الوطن.. وقد يكون أصغر من طُلّابك.. وليس له أي تاريخ نضالي..

وهكذا قد ترى صاحب أدنى المؤهلات يشغل موقع وزير، وصاحب أعلى المؤهلات مُهمّشا ومقصيا في بيته.. وكل شيء قائم على المحسوبيات والواسطات والدعم والقرابات والشللية.. وكل هذه الأمراض..

**

ماذا يدفعُ بشعوب بُلدان كما فنزويلا أو المكسيك، أو الأرجنتين، أو تشيلي، للهجرة نحو الشمال، إلى الولايات المتحدة أو كندا؟.

ماذا يدفع شباب العراق ولبنان وليبيا والسودان وتونس والمغرب وموريتانيا ومصر واليمن، ووو الخ، لو كانت هناك قيادات عرفت كيف تقود هذه البُلدان بأمانة وضمير وإخلاص، وتستثمر في ثروات بلادها بشكل صحيح، كما قيادات دول الخليج العربي؟.

كم كانت جزيرة سنغفورة فقيرة؟.  اليوم فيها أعلى دخل بالعالم..

أولئك إن تشمّسوا باليخوت فقد يليق بهم، لأن شعوبهم مُرفّهة، ولا ينقصها شيئا..

**

ولذلك طبيعي ما جاء على لسان السيد أنطونيو غوتيريش من أن البحر يلفظ الجثث، واصحاب المليارات يتشمّسون فوق مياههِ.. أولئك أنفسهم الذين يعيشون حياة الرخاء والرفاهية في أرقى البيوت والفِلل والفنادق والمتجعات.. وأكيد يتقزّزون من منظر هذه الجثث التي قد تُعكِّرُ عليهم أوقات استجامهم.. دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء السؤال: لماذا ذلك؟. ما السبب؟.

يقول الإمام علي (ك) :

ما جاع فقيرٌ إلّا بِما مُتِّع به غني..

وهل أصدق من قول الإمام علي!.

ما زالت كلمات تلك الطفلة السويدية التي تحدثت بإسم أطفال العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2019 ، ترنُّ في أُذُني، حينما قالت أمام زعامات العالم:

(لقد سرقتُم أحلامي وطفولتي بكلامكم الفارغ، فكيف تجرؤون؟؟) ..

نعم كيف تجرؤون؟؟

 

 

سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بوتين: واشنطن تدفع نحو صراع عالمي.. ونجحنا في اختبار صاروخ “أوريشنيك”

  الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يقول إن الولايات المتحدة تدفع العالم نحو صراع عالمي، ويؤكد أن تدمير مصنع الصواريخ الأوكراني تم بصاروخ باليستي روسي فرط ...