في عام 2013 صدرت السيرة الذاتية للدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ علم الاجتماع السياسي و مدير مركز ابن خلدون الذي رحل أخيرا، وهي المذكرات التي حرص صاحبها على تضمينها قصصه مع العديد من رؤساء الدول ، مما أضفى عليها حيوية، فلم تخل من إثارة.
يحكي إبراهيم قصة لقائه مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قائلا: “كان لديّ حماس للثورة، وللشعارات التي رفعتها، والإجراءات والقوانين والسياسات التي اتخذتها، لذلك عندما أعلنت المدرسة عن مسابقة في كتاب ” فلسفة الثورة لجمال عبد الناصر، والذي كان قد صدر في أوائل العام، تقدمت لها على الفور، وحسبما فهمت كانت المسابقة على مستوى المدارس، ثم على مستوى المناطق التعليمية، ثم على مستوى القطر، واجتزت كل هذه المستويات بنجاح، ثم كنت الأول على القطر المصري،وهو ما لم أتوقعه، وسعدت له كثيرا، المهم أن الثلاثين الأوائل تمت دعوتهم إلى القاهرة، ورتب لهم معسكر في المدرسة السعيدية بالجيزة، وكان هناك فقط طالبتان من القاهرة كانتا تحضران معنا الأنشطة النهارية ثم تعودان إلى منزلهما، وطوال الاسبوع كان 28 طالبا يتنافسون على جذب اهتمام الطالبتين التي كانت إحداهما شقيقة وزير التربية والتعليم وعضو مجلس قيادة الثورة كمال الدين حسين، وكان اسمها صفاء حسين، وكانت بالفعل جميلة للغاية.
كانت قمة هذا المعسكر هو أننا متوجهون بصحبة السيد كمال الدين حسين إلى مبنى قيادة الثورة في الجزيرة للقاء الرئيس جمال عبدالناصر.
جلسنا في إحدى غرف الانتظار بمبنى قيادة الثورة، وكنا في أوائل شهر أبريل، ومرت علينا المشروبات المثلجة، ثم قمنا بجولة سريعة في المبنى، وفي تمام الثانية عشرة أخذنا المشرفون إلى مكتب الرئيس جمال عبدالناصر الذي استقبلنا عند المدخل، وصافحنا واحدا واحدا بحفاوة ظاهرة..
وظللنا لوهلة صامتين
متهيبين، فبادرنا هو بسؤال: ماذا وجدتم من فروق بين ثورتنا والثورات العالمية الأخرى، والتي شملت الانجليزية والفرنسية والبلشفية والتركية والصينية؟
ومرة أخرى ظل الجميع صامتين، والتقت عيناي بعيني إحدى الفائزات، وهي صفاء حسين، وفسرتُ نظرتها كما لو كانت رجاء لي أن أتحدث، بما أنني الأول فاستجمعت ما استطعت من شجاعة، وقلت ما معناه” كانت ثورة يوليو تتميز عن الثورات الأخرى بأنها كانت ثورة بيضاء.
فبادرني الزعيم: أليست كانت فعل ماضي، فهل حدث ما أزال عنها تلك الميزة؟
ووقعت عيناي على وجه الوزير بجانب الزعيم، وكان وجهه يميل للاحمرار، ولكنه ازداد في تلك اللحظة احمرارا وتقطيبا، فأسقط في يدي، وأصيب لساني بالشلل، فلم أستطع الرد على سؤال الزعيم، وظل زملائي التسعة الآخرون لائذين بالصمت، و سألنى الزعيم: اسمك إيه؟ فرد التسعة بما يشبه الصوت الواحد:
سعد الدين إبراهيم يا ريس.
فربت الزعيم على كتفي، وقال: استكمل يا سعد الدين. قلت بصوت منخفض أشبه بالهمس: أقصد ما وقع من إعدامات للعمال، واعتقالات للإخوان المسلمين مؤخرا، وربما كان لدى الثورة أسباب قوية لذلك، فحبذا لو تحيطوننا بها علما، ونحن أبناؤكم المخلصون”.
سألني الزعيم عن مصدر معلوماتي، فذكرت أنها الصحف والإذاعات، والمعرفة الشخصية.
توقف الزعيم وسأل:
زي إيه المعرفة الشخصية؟
فحكيت قصة عبد الحميد حسنين، وكان الزعيم يدون ملاحظاته.
ربت الزعيم مرة أخرى على كتفي، وبنظرة أبوية حانية، سأل إن كنا سمعنا آخر نكتة عن “قلم حبر الرئيس” فانفرجت أساريرنا بمن في ذلك كمال الدين حسين الذي يبدو أنه قد سمعها من قبل، لكن الطلبة ردوا معا: لا.
حكى الزعيم أنه في منتصف يوم عمل، وهو على مكتبه، لم يجد قلم حبره الباركر 51 الذي أهداه إياه الرئيس الأمريكي أيزنهاور، فاتصل بزكريا محيي الدين وزير الداخلية، وأبلغه بفقد القلم، ورجاه أن يساعده في البحث عنه، ثم بعد خمس دقائق وهو( أي جمال) يعيد ترتيب بعض الملفات، وجد قلم الحبر تحت أحد هذه الملفات، فاتصل بزكريا محيي الدين مرة ثانية ليخبره بأنه وجد القلم،فرد عليه زكريا: إزاي يا ريس، احنا قبضنا على الحرامي، واعترف بسرقة قلم سيادتك وانفجرنا جميعا ضاحكين، ثم وعد الرئيس أن يحقق في موضوع عبد الحميد حسنين، وقال إنه لا يستبعد أن يكون ما قاله سعد الدين قد حدث فعلا، وبرره بأن الثورة ورثت نفس الحهاز الأمني للعهد البائد، وكأي جهاز بيروقراطي يريد أن يثبت ولاءه للعهد الجديد، فيكون ملكيا أكثر من الملك أو ثوريا أكثر من الثورة”.
صدّام
يحكي سعد الدين إبراهيم قصة لقائه بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وقوله له: “أحلم بأن أجعل الأمة العربية قوية، خالدة، وأن ذلك لن يتحقق إلا بوحدتها، وأن هذه الوحدة لن تتحقق إلا بوجود القطر العربي القاعدة، الذي تنطلق منه قاطرة الوحدة، وأن مصر الناصرية كانت مهيأة في الخمسينات أن تكون القاعدة، وانطلقت منها القاطرة فعلا، ولكنها لم تمض أبعد من سورية، ثم ارتدت القاطرة عام 1961، وتحطمت في 1967.
ولا يوجد قطر عربي مهيأ لأن يكون قاعدة تنطلق منه القاطرة في السنوات العشر القادمة وربما إلى نهاية القرن سوى العراق. “
“واستعرض صدام البلدان العربية التي كان يمكن أن تقوم بدوري القاعدة القاطرة، ولكن يمنعها من ذلك عامل أو أكثر، ومن ثم تستبعد تلك الأقطار في الوقت الراهن إلا العراق الذي لديه: السكان والنفط والماء والزراعة والقاعدة الصناعية،التقنية المعقولة “.
مشاجرة في الكعبة
يحكي د.سعد الدين إبراهيم في مذكراته قصة أدائه العمرة مع أمه، فيقول: “وبقدر سعادة والدتي لأداء العمرة، ولصحبتي، بقدر خيبة أملها في هدايتي بالشكل الوجداني الروحاني المفاجئ الذي كانت تتوقعه، على العكس كادت تفجع حينما حدثت مشاجرة بيني وبين أحد حراس الكعبة ممن يسمون ” بالمطوعة” حينما رأيته يضرب امرأة شابة تطوف حول الكعبة مع أمها العجوز، وكانت الابنة تصيح فيه:
لماذا يضربها؟
وكان الرجل النحيل يقول لها: إنها فاجرة.. عاهرة وهو مستمر في ضربها.
وكان المشهد بالنسبة لي مستفزا، فصحت في الرجل أن يكف عن ضربها، خاصة أن أمها العجوز بدأت تولول هي الأخرى إشفاقا على ابنتها التي تتعرض لهذا الضرب المبرح.
ويبدو أنه لا أحد يتعرض أو يعترض على حراس الكعبة من المطوعة هؤلاء، لذلك استنكف الرجل أن أصيح فيه محتجا، فاستدار، وبدأ ينهال عليّ أنا بعصاه، وبدفاع تلقائي عن النفس، أخذت العصا من يده وبدأت أضربه بها، وسط ولولة العجوز وابنتها الشابة ووالدتي، وفي لمح البصر تجمع حولي ما لا يقل عن عشرة من زملاء الحارس، وانهالوا عليّ هم أيضا بعصيهم، وحدث هرج ومرج، حينما تدخلت النساء الثلاث في المعركة دفاعا عني، ولحسن الحظ ظهر بسرعة ما بدا أنه ضابط شرطة كبير، نهر الحراس فتوقفوا، وأمرني أن أتبعه إلى مكتبه، وبعد عدة أسئلة عن هويتي، اعتذر الرجل نيابة عن الحارس الفظ، وفسر لي سلوكهم المؤسف حيث هم أعضاء في جمعية ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”( الوهابية المحافظة) وقبلت اعتذاره، لكن حب استطلاعي جعلني ألح عليه لاستدعاء الحارس لمعرفة السبب الذي جعله يستهدف الابنة الشابة وليس أمها، وليس والدتي مثلا، وفعلا استدعى الضابط ذلك الحارس ووجه له السؤال، وكانت الإجابة هي أن جزءا من أصابع قدمها كان سافرا، ولما وضحت له أنها ترتدي نفس الطاقم مثل أمها، وأن نفس السفور باد من قدم أمي، وأكثر منها من قدمي والدتي لم يعرضهما لنفس المعاملة.
صرف الضابط الحارس، وأجاب نيابة عنه: السبب بسيط يا دكتور: أمها عجوز، وكذلك والدتك، أما التي تعرضت للضرب فهي شابة جميلة، أخرج حيالها الحارس الكبت الجنسي المخزون في أعماقه”.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم