آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني: مقاربة قومية اجتماعية

الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني: مقاربة قومية اجتماعية

توفيق مهنا الخميس

لم يسبق في كل الحروب التي جرت طوال 75 عاماً، أي منذ نشأة كيان الاغتصاب في فلسطين عام 48 وتوسّعه في محيطها القومي، أن انكشف هذا الكيان المصطنع على حقيقته وجوهره، في بنيته السياسية والفكرية والدينية والعنصرية والعسكرية، كما في حرب الإبادة هذه. ولم يسبق أن انفضح الغرب الاستعماري، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وبانت شعاراتهم الخدّاعة على حقيقتها، كما في حرب الإبادة هذه.على أرض فلسطين، أرض غزة وأرض الضفة الغربية، تهاوت شعارات التشدّق بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وانهارت معزوفة المجتمع الدولي وقوانين مؤسساته، وسُفحت جمعيات حقوق الطفل والمرأة، على مذبح أطفال غزة، وغزة بشراً وحجراً، على مسامع العالم الحر وأمام أعينه الزجاجية وقلوبه المتحجّرة.

سقطت أقنعة هذا العالم الذي يدّعي زوراً أنه عالم حرّ باشتراكه وقيادته واحتضانه لأبشع الجرائم الصهيونية والنازية، بسلاحه وجسور إمداده الجويّة والبحرية والتكنولوجية والاستخبارية، وبغطائه الدبلوماسي والسياسي واستخدامه حق النقض في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدعو إلى وقف الحرب والإبادة والقتل.

وارتضى هذا العالم أن يقوّض كل منظومات شعاراته والمبادئ التي قامت الدولة عليها، وبخاصة شعارات الثورتين الفرنسية والأميركية، انتصاراً لهذا الكيان المصطنع والشاذ، متجاهلاً ما تصدح به حناجر شعوب الأرض التي اهتزّت ضمائرها من هول البربرية التي تراها: «أوقفوا حرب الإبادة لشعب فلسطين»، و«فلسطين حرة حرة حرة». وهكذا احتلّت فلسطين مساحة الضوء وتصدّرت من جديد صدارة المشهد الدولي فارضةً قضيّة شعب حي مقاوم وأيقونة حريّة وبوصلة أحرار.

وبدلاً من التجاوب مع نداءات الشعوب، لجأ هذا الغرب الاستعماري إلى أسلوب محاكم التفتيش البائدة، وإلى كمّ الأفواه ومحاكمة الرأي وترهيب النخب في الجامعات وتهديد كل من يتظاهر أو يعبّر عن موقف ضد النازية الصهيونية وفظائع جرائمها. وتمادى في استصدار قوانين وتشريعات لترهيب كل من يجرؤ على الكلام ضد الصهيونية وتصنيفه معادياً للسامية، وكأنّ العالم قد نسي أن الصهيونية هي صنو العنصرية ومساوية لها كما نصّ القرار 3379 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة وألغاه النفوذ الاستعماري والهيمنة الدولية على مجلس الأمن.

ولم يسبق، أيضاً، أن تعرّت أنظمة الذل والهوان والاستسلام العربية كما عرّتها هذه الحرب، بحيث لم تجرؤ على اتخاذ موقف أو تلوّح بأخذ موقف من معاهدات الاستسلام، من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى اتفاق أوسلو، تعبيراً عن الروابط العربية في أدنى درجاتها، كما يجسّدها شعب اليمن البطل والشعوب العربية الأبية، في وقت لجأت فيه دول أجنبية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع هذا الكيان الغاصب وطرد سفرائه تضامناً مع شعب فلسطين وأهل غزة الذين يسطّرون ملاحم بطولية سيخلّدها التاريخ.

ألم تقدّم بطولات شعبنا ومقاومته الوضّاءة، في فلسطين ولبنان والجولان والعراق، فرصة تاريخية لتتحرّر مصر من كامب ديفيد والأردن من وادي عربة والسلطة الفلسطينية من أوسلو، واستعادة دور يعيد الوزن للعالم العربي.

والفاجعة الكبرى أن لا تبادر السلطة الفلسطينية إلى تمزيق أوسلو والعدو لم يترك مدينة أو قرية أو مخيماً في الضفة الغربية إلّا واجتاحه وصولاً إلى مدينة رام الله، مركز السلطة، والانخراط بكل مقوّمات سلطتها في احتضان مقاومتنا والانتصار لها مهما كانت التضحيات.

نشهد أمامنا صورة التحوّل الذي أحدثه صمود شعبنا في العالم لدى الرأي العام، ونلمس أن فظائع العدو وجرائمه وعجزه أمام أسطورة المقاومين تؤول تدريجياً إلى تحرير الإنسان في العالم من «تابو» عدم الجهر بتضامنه مع قضايانا، فلماذا تبقى هذه الأنظمة خانعة؟ ولماذا لا نعي أن العالم يقف معنا؟ ومن رحم المجازر بحق شعبنا يولد عالم جديد ينتصر لحقنا، فلماذا لا نقدِم؟

هذا الأمين العام للأمم المتحدة يتجرّأ ويتحدّى، ولم يستسلم أمام الترهيب الأميركي الصهيوني. لا تفسير لهذا الخنوع سوى التواطؤ وانتظار هزيمة المقاومة، والتي سيمنّي النفس بها نتنياهو وشركاؤه من الغرب. لم يفاجئنا فيتو الولايات المتحدة في مجلس الأمن، هذه الإدارة يتباهى رئيسها بأنه صهيوني ويفتخر ووزير خارجيتها بأنه يهودي، فماذا نتوقّع؟

باكراً، وباكراً جداً، وفي مشاهدة تاريخية لصراعنا القومي الوجودي والحضاري، تأكّدت رؤية أنطون سعادة، باعث النهضة ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، في مقالته الشهيرة قبل قرن من الزمن في 1/5/1924: «إنّ الولايات المتحدة سقطت من عالم الإنسانية الأدبي» – هذا الحكم التاريخي بني على مصادقة الكونغرس الأميركي على انتداب فرنسا للبلاد السورية وعلى مصادقته على وعد بلفور كذلك. ترى هل اختلفت سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة عن هذا النهج الاستعماري، من الاعتراف بالكيان الغاصب عام 1948 وصولاً إلى الجسر الجوي في حرب تشرين عام 1973 إلى دعم الاجتياح اللبناني عام 1982 إلى غزو العراق عام 2003 إلى حرب تموز عام 2006. وهل ننسى الإطاحة ببطرس بطرس غالي ودم مجزرة قانا لم يجف. باكراً، وباكراً جداً، أدرك سعادة أن الخطة الصهيونية ومشروعها خطر وجودي ومصيري ويتطلب، لمحق الدولة اليهودية المصطنعة، «كل ذرّة من ذرّات قوانا»، «لأن لا عدو لنا يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقنا إلا اليهود».

لذا، تختلف هذه الحرب عن أي حرب أخرى مع قوة استعمارية لأنها حرب مصيرية على الأرض، أرضنا، وعلى الشعب، شعبنا، وعلى الحضارة بكل مضامينها، حضارتنا. إذاً، ليست حرباً على طبيعة النظام القائم في كيان الاغتصاب، هل النظام ديموقراطي أم نظام عنصري، اشتراكي أم ليبرالي، علماني أم ديني… هي حرب مع أصل الكيان ووجوده لا مع نظامه مهما كانت أشكاله. وليست حرباً، كذلك، على حدود الكيان الزائفة، ولا على أي شبر من أصل الكيان، كيان مهدد لوجود شعبنا فوق أرضه سيداً وحيداً عليها. أصل الكيان كيان توسعي على مدى أرضنا القومية من الفرات إلى النيل.

بالتالي، فإنّ صراعنا القومي الوجودي والحضاري هذا لا مكان فيه للتسويات ولا للحلول المجتزأة ولاجتناب المواجهة أو النأي بالنفس، فكل كيانات الأمّة معنيّة بهذا الصراع. وهنا نسأل: هل نهج التسوية أصلاً كان في إستراتيجيات الخطة الصهيونية ومن بعدها في سياسات كيان الاغتصاب؟ هل حل الدولة الديموقراطية العلمانية الواحدة، حسب برنامج النقاط العشر، كان وارداً في حساباته؟ ألم يطرح قائد الثورة الفلسطينية، من على منبر الأمم المتحدة عام 1974، هذا البرنامج؟ وأين صار البرنامج؟ وما مصير صاحبه؟ هل الدولة ثنائية القومية واردة؟ هل مبادرة السلام العربية 2002 واردة؟ وأخيراً، هل الطرح الذي تقدّمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بالدعوة إلى استفتاء شعبي في فلسطين يشارك فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون، يبصر الحياة؟

برأيي، هذا تصوّر تشوبه مغالطات كبيرة وعميقة ومستحيل التطبيق، فالوجود اليهودي في فلسطين وجود غاصب، خليط هجرات استعمارية عنصرية تلمودية وتوراتية، ولا يتساوى هذا الوجود مطلقاً مع وجود شعبنا أو يمتلك الحقوق ذاتها. وأنوّه بمقالة الدكتورة صفية أنطون سعادة في «الأخبار» في 28/11/2023 حول هذا الموضوع. وليست مسألة فلسطين، ولن تكون، تجمّعات كتل بشرية دينية، بل قضية شعب محتل وغزاة.

في مفهومنا لحرب الوجود، نؤكّد مقولة أنطون سعادة، والتي بلورها وأعطاها أبعاداً عميقة المفكر الراحل إنعام رعد: «كلنا مسلمون لربّ العالمين، منا من أسلم بالإنجيل ومنا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالحكمة، فلا عدو لنا يقاتلنا في أرضنا وديننا وحقنا إلا اليهود». من يقاتل من إذاً؟ العدو يقاتلنا على وجودنا ومعتقداتنا وحقوقنا، ومن حقنا أن نواجه بكل ما نملك من طاقات قومية مادية وروحية لنحفظ وجودنا، إذ تحت يافطة الدولة اليهودية، والقومية اليهودية لهذه الدولة، وحكومة الحرب الواحدة الجامعة لليميني واليساري، للعلماني والديني، للموالاة والمعارضة، يخوض الكيان الغاصب معركة وجوده في غزة والضفة وأراضي 48 وفي جنوب لبنان والجولان وصولاً إلى العراق، فلماذا نتلكّأ عن خوض هذه الحرب بكل مَعين قوتنا المادية والروحية. إنّ حركات المقاومة، أياً كانت عقائدها، هي حركات تحرّر أولاً وقبل كل شيء، لاستعادة أرض مسلوبة وحقوق مهدورة.

أرضنا هي أرض ميعاد لمشروع من الفرات إلى النيل، بالقوة والدعم والتفوق، سعى، ويسعى، ولن يتخلى أبداً، ليسود، عن هذا المشروع، حرباً أو سلماً، احتلالاً وتوسعاً، أو تهجيراً لشعب فوقها، أو تفجيراً لبنية المجتمع عرقياً وطائفياً ومذهبياً! وعلينا أن نعي أن مشروع السلم الإسرائيلي التطبيعي يوازي خطر السيطرة على جغرافيا التطبيع السياسي أو الاقتصادي أو الديني، آخره «اتفاق أبراهام»، هي كلها حلقات خطة صهيونية استعمارية مترابطة ومتواصلة لإنهاء وجودنا القومي والحضاري (وألفتُ إلى ما كتبه المفكّر يوسف الأشقر حول هذا الشأن في «حرب المجتمع على نفسه»).

أخيراً، وتثميراً لمقاومة شعبنا في غزة والضفة وجنوب لبنان، لا بد أن نرتقي في خطط أعمالنا ولنقترح:

• إجراء مراجعة جريئة ونقدية لتجارب صراعنا على المستويات كافة.

• وحدة الميدان لفصائل المقاومة، أرض صلبة لبناء وحدة وطنية سياسية مقاومة.

• إسقاط نهج التسوية، وبخاصة فلسطينياً وعربياً، وبناء نهج مقاوم ترجمة لـ«وحدة الساحات».

• إلغاء اتفاقيات التطبيع بكل أشكاله.

• تعزيز المقاطعة ومواجهة الغزو الثقافي لدرء مخطط التهويد والتغريب والتطبيع.

• مواكبة يقظة الرأي العام الدولي والتواصل مع حركات التحرّر في العالم.

 

*قيادي في الحزب القومي

 

 

 

سيرياهوم نيوز٣-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هل يعلن ترامب الحرب على الصين؟

نور ملحم في وقت يستعد فيه الجيش الأمريكي لحرب محتملة ضد الصين، ويجري تدريبات متعددة لمواجهة ما سُمي بـ«حرب القوى العظمى»، بدأت بكين في بناء ...