جمال غصن
لا أدري إن كان أطفال اليوم يتعرّضون للمنهج «التعليمي» نفسه الذي خضعتُ له تحت تهديد الطبشة** في ثمانينيات زحلة، لكن هناك معلّمة لطيفة روت لنا «في الزمانات» قصة الولد الذي كان يصرخ في ساحة القرية أن هناك ذئباً قادماً، وهو أمر يدعو إلى الهلع، فيهلع الناس ويختبئون من الذئب. لكنّ الولد يكذب، ولم يكن هناك ذئب ولا ثعلب ولا قطّ حتّى. كرّر الولد كذبته مرّات عدّة إلى أن اعتاد أهل القرية عدم تصديقه. في يوم من الأيام، هجم الذئب فعلاً وصرخ الولد ولم يصدّقه أحدٌ من أهل البلدة وفتك الوحش بالإنسان، كاذباً كان أو صادقاً. هذه الرواية مضلّلة وغسيل دماغ للأطفال، لأن تجربة العمر أثبتت أن الإنسان مستعدّ لأن يصدّق الكاذب لو كذب تكراراً، وخاصة عند تكرار الكذبة إلى أن تصبح شيوعاً أو فولكلوراً. يساعد شيوع كذب الولايات المتحدة الأميركية منظومة تكرار تمتدّ من الشاشات المحمولة في كفّ اليد إلى شاشات التلفزة، وصولاً إلى كبرى الشاشات في صالات السينما. آخر تجلّيات هذا الكذب المتكرّر ظهر على أكثر من جبهة في الأيّام الماضية، بدءاً من قلب الولايات المتحدة التي روّجت لكذبة أن إطاحة ترشيح جو بايدن وتبنّي منظومة الحزب الديموقراطي لكمالا هاريس ونائبها ملحم خلف المينيسوتي على أنّها «تغيير». يا محلى تغييريّي لبنان الذين قد لا يكونون أصدق من كمالا، لكنهم ليسوا أكذب منها. هناك من يصدّق الرواية الواشنطنية لنتائج انتخابات فنزويلا مثلاً، رغم أن هناك ربع قرن من الدلائل التي تثبت أن واشنطن تعبث في كراكاس وتحاول الانقلاب على الثورة الاشتراكية في البلاد التي كانت بمثابة مستعمرة منهوبة من قبل الإمبراطورية الرأسمالية المدمنة النفط في شمال القارة الأميركية.
يكذبون شرقاً وغرباً… وشمالاً وجنوباً، ويُصَدَّقون. لكن ماذا عن الكذب الذي يعنينا الآن هنا؟ يكذب البيت الأبيض في نيّته مع عملائه العرب في إيجاد اتّفاق لوقف إطلاق النار على غزّة. كذب سابقاً ويكذب الآن. على مدى عشرة أشهر، أثبتت المنظومة الاستعمارية الغربية بقيادة واشنطن أنها مستعدة لحماية طفلتها المدلّلة، وكيلتها في المنطقة، مندوبتها في الإبادة، «إسرائيل»، حتّى آخر رمق. لكن هناك من يصدّق اليوم أن الولايات المتحدة تصلح وسيطاً وإن كان بشخص قاتلٍ من الجيش الإسرائيلي، وقد تصدّق كلماتها وكلمات وكلائها «العرب» الذين لم يرتقوا بعد إلى رتبة العميل. ورغم كل ذلك، هناك قابلية لتصديق الكاذب.
قد تكون قدرة واشنطن، وهوليوودها، على خلق وعيٍ عام مزيّف أكثر أسلحتها فتكاً في العالم. والبارز هو أنّه على الأقلّ في الشق الهوليوودي من البروباغندا لم يدّعوا يوماً أنّهم يقولون الحقّ، بل علناً يعلنون أنّ إنتاجهم من نتاج خيال الكتّاب السينمائيين. ورغم ذلك، تُحفر صورة التفوّق الأميركي، وعقدة النقص العامة، في الوعي الجماعي العالمي. لكنّ أي تدقيق في أي صورة تصدر عن ماكينة الدعاية الأميركية يظهر زيفاً مشرشراً لا يوجد إناءٌ لن ينضح فيه هذا الكمّ من الزيف. ورغم ذلك المتلقّي يصدّق. يصدّقون رواية واشنطن في فنزويلا، ورواية واشنطن في بنغلادش، ورواية واشنطن في واشنطن، ورواية واشنطن في فلسطين. لكن مقابل الروايات هناك حقيقة، وليست حقائق، فالحقيقة لا جمع لها.
سألتني صديقة كولومبية متأمركة من أيام الجامعة في خضمّ نقاش حامٍ حول الأوضاع في فنزويلا: أتقول لي أن كل ما تفعله الولايات المتحدة هو شرّ؟ حتّى يثبت العكس، نعم. هي اعترفت بأن الأمريك كذبوا عن فنزويلا سابقاً، واعترفت بأن كولن باول كذب في خلقه حجّة غزو العراق… وكذبوا وكذبوا وكذبوا، لكن اليوم يكذب مادورو وليس هم. وللأسف يشاركها في هذه القناعة حلفاء وحليفات وحتّى زملاء وزميلات لنا في «الأخبار». للأسف كذبات أميركا وتكرارها تخلق حقيقة، لكنّها ليست الحقيقة. الحقيقة بكل بساطة هي عكس ما تقوله واشنطن.
* من أسرة «الأخبار»
**عصاة خشبية يستخدمها رجالٌ بالغون يدّعون أنّهم معلّمون ومربّون (أصبح أحدهم وزير سياحة في لبنان، بالمناسبة) لتأنيب الأطفال الذين يسائلون أساليب تعليمهم الفاشلة
سيرياهوم نيوز١_الاخبار