نزار نمر
لعلّ من أبرز نتائج «طوفان الأقصى» غير المباشرة والعدوان الصهيوني الذي تلاه، كان تسليط الضوء عالميّاً ليس على الصوت الفلسطيني فقط، بل على الثقافة الفلسطينية برمّتها، بمختلف أشكالها وحِقَبها وأسمائها، بما في ذلك الموسيقى. هكذا بات يمكن رؤية شابّة أبيض من الثلج، ساكنة في أقصى شمال المعمورة، لا تعرف كلمة عربية واحدة لكنّها ترتدي كوفية وتظهر حماستها على «تيك توك» للتعرّف إلى ثقافة فلسطين وتاريخها، ربّما تفوق حماسة الفلسطينيّين أنفسهم. ولئن هناك أسماء فلسطينية كثيرة مخضرمة كما شابّة أبدعت، كلّ على طريقته، وكثير منها من بلدان المهجر، إلّا أنّ واحداً منها تميّز في العالم والغرب خصوصاً أكثر من غيره من حيث الشهرة الواسعة وإقامة الحفلات الضخمة.
الاسم هذا هو إليانا (Elyanna)، وهو يعود إلى المغنّية الفلسطينية التشيلية التي تحظى مختلف أغانيها على يوتيوب بعشرات ملايين المشاهدات، وتنفد حالياً بطاقات حفلاتها المرتقبة في الولايات المتّحدة وكندا وأوروبا. حفلات تعهّدت بتحويل ريعها إلى غزّة عبر «تحالف أطفال الشرق الأوسط». وكانت إليانا شاركت العام الماضي في مهرجان «كوتشيلا» الأميركي الشهير بضخامته، لتصبح صاحبة أوّل عرض يقدَّم كاملاً باللغة العربية في تاريخ هذا المهرجان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عرضها في برنامج ستيفن كولبير التلفزيوني الليلي. كما تصدّرت غلافات مجلّات عدّة، بما فيها «رولينغ ستون» و«بيلبورد عربية» و«فوغ عربية»، فيما دعتها فرقة «كولدبلاي» العالمية للأداء في «مهرجان غلاستونبري». أيضاً، عُرضت أغنيتها «على بالي» في المسلسل الدرامي الكوميدي الدرامي «مو» على نتفليكس، كما قدّمت أغنية «غصن الزيتون» في «مهرجان الجونة السينمائي».
شهرتها هذه ليست مستجدّة، إذ إنّ المغنّية الشابّة أحدثت ثورةً بكلّ معنى الكلمة في الموسيقى، فلسطينيّاً وعالميّاً. من جهة، هي من الحالات النادرة، إن لم تكن الوحيدة، حيث يشتهر فلسطيني في الغرب يحمل بلده وثقافته في فنّه من دون أن يكون ذاك الفنّ متعلّقاً بمعاناة هذا الشعب التاريخية بالضرورة. كما تقول إليانا: «أحبّ أن أمثّل ثقافتي بطريقة جميلة. عندما يفكّر الناس فيها، أريدهم أن يفكّروا في الأشياء الجميلة: الرقص الشرقي، لهجاتنا، التطريز»… من جهة أخرى، تحمل المغنّية نوعاً جديداً نسبيّاً، وهو البوب العربي، وتأخذه إلى العالمية رغم أنّه ليس بالإنكليزية، فتشهره كما اشتهرت أغنيات بالإسبانية والفرنسية في السابق. صحيح أنّ فلسطينيّين وعرباً سبقوها في الشهرة العالمية، إلّا أنّ فنّهم كان بالإنكليزية أو بلغات أخرى، ولم يحملوا لغتهم معهم وانسلخوا عن ثقافتهم، مثل بول عنقا وشاكيرا ودي دجاي خالد وغيرهم، مع بعض الاستثناءات. هنا تكمن القيمة المضافة التي تشكّلها إليانا، بحيث تغنّي نوعاً غربيّاً يعجب الجمهور العالمي، وفي الوقت عينه بلغتها الأمّ التي لا يحسنها الجمهور بالضرورة، معتمدةً على موهبتها من دون استغلال السوداوية رافعةً لها! بهذا، تكون أوّل مَن أوصل أغاني باللغة العربية بالكامل إلى المخطّطات في الغرب.
ألبومها الأول مستوحى من فلسطين والشتات العربي كله
اسمها الكامل إليانا عامر مرجية، وهي مغنّية وكاتبة أغانٍ لا يتعدّى عمرها الـ22 سنة. وُلدت في مدينة الناصرة الفلسطينية المحتلّة، ولديها جذور تشيلية من جهة والدها. ترعرعت في أحضان عائلة ثقافية بامتياز، فوالدتها شاعرة، وجدّها لوالدتها كان شاعراً وزجّالاً، وجدّتها لوالدها عازفة بيانو تشيلية، وشقيقها فراس عازف بيانو بات يكتب الأغاني معها، وشقيقتها مصمّمة أزياء. بدأت الغناء في سن باكرة، ولاحظ فراس موهبتها، قبل أن تنتقل مع عائلتها في عمر الـ15 إلى لوس أنجليس. هناك، راسلت المنتج الموسيقي فلسطيني الأصل نصري عطوي، وهو المغنّي الأساسي لفرقة Magic! الشهيرة وكاتب أغانيها، وقد أسهم في أعمال لفنّانين أمثال Usher وجون ليجند وهالزي. فتح رسالة إليانا من باب المصادفة. إذ يروي عطوي لصحيفة «لوس أنجليس تايمز»، في مقال نُشر قبل أربع سنوات، أنّه في العادة يتلقّى ثلاث أو أربع رسائل غير مرغوب فيها يوميّاً من مغنّين غير موقّعين مع شركات إنتاج، ويتجاهلها. ولكن في عام 2018، عندما راسلته إليانا، أسرته «عيناها الخضراوان الثاقبتان، ثمّ صوتها»، كما يقول. ويضيف أنّه كان هناك عنصر جاذبية آخر، وهو أنّ والديه كانا قد هاجرا أيضاً من الناصرة إلى كندا، واكتشف لاحقاً مع إليانا أنّ عائلتَيهما كانتا مقرّبتَين، وهناك احتمال صلة قرابة بعيدة بينهما. في النتيجة، دعاها إلى الاستوديو الخاصّ به، بحضور أفراد عائلتها. لكنّ عطوي سرعان ما أبدى اقتراحه المبتكر: الغناء باللغة العربية. لم يعجب ذلك إليانا الحالمة بتسلّم الشعلة من آريانا غراندي ولانا دل راي، فغادرت الاستوديو وأجهشت بالبكاء. إلّا أنّ الأمر لم يستدعِ طويلاً حتّى بدّلت رأيها ووافقت على الفكرة، معتبرةً أنّها «هويّتي. أنا فتاة عربية. أنا فلسطينية»، مستفيدةً من إعجابها بالعملاقة فيروز التي تعتبرها أيضاً أحد مصادر إلهامها.
بدأت إليانا مشوارها الغنائي بتقليد الأغنيات على موقعَي «ساوند كلاود» و«يوتيوب»، مصدرةً أغنيتها الأولى عام 2019 تحت عنوان «يلّا يا» قبل أن تتبعها بأخرى تحت عنوان رقّصني شوي». ومن هنا، عرّف عطوي المغنّية الشابّة على مديره المنتج لبناني الأصل وسيم «سال» صلَيبي، المعروف بعلاقاته المهنية مع بعض أشهر الفنّانين مثل The Weeknd وSwedish House Mafia وDoja Cat وغيرهم. وتروي إليانا أنّ والدها كان قد شاهد صلَيبي على التلفزيون عندما كانت العائلة لا تزال في الناصرة، وقال لها في حينه: «هذا منتج لبناني يدير أعمال ذا ويكند وسيصبح مدير أعمالك يوماً ما إن شاء الله»، معقّبةً بأنّ حلمها صار حقيقة. كما تعرّفت المغنّية إلى الفنّان اللبناني الأصل مساري، وبات الثلاثي إليانا وعطوي ومساري يدأب على التسجيل في الاستديو بشكل دوري، وهو ما تُوّج بإصدار أغنية «أنا لحالي» مع مساري عام 2020، من أوّل EP لها الذي حمل اسمها، وتصدّرت المخطّطات في لبنان.
عادت إليانا إلى المخطّطات عام 2022 بأغنيتَين من ثاني EP «إليانا 2»، هما «غريب عليّ» مع الفنّان التونسي بلطي، و«على بالي». ويتضمّن الـEP أغنية «الكون جنّة معاك» وهي نسخة عربية من أغنية La vie en rose للمغنّية الفرنسية الأسطورية إديث بياف، وقد أخرجت فيديو الأغنية كارولين غرانت، شقيقة المغنّية لانا دل راي التي شاركت أيضاً في المشروع عبر تصميم أزياء إليانا. وحافظت إليانا على اسمها في المخطّطات بأغانٍ من ألبومها الكامل الأوّل «وُلدتُ»، تصدّرت اثنتان منها هما «ماما إيه» عام 2023 و«جنّني» عام 2024. وتقول إليانا عن ألبومها إنّه «يعيش في عالمه الخاصّ، ورغم كونه الأوّل لي، إلّا أنّه بالنسبة إليّ بمثابة ولادة جديدة لنفسي، وفي الوقت عينه بمثابة كشف النقاب عن إليانا». تضيف: «هذا الألبوم رحلة عبر الهوية والحبّ والغضب والنسوية، وهو مستوحى من فلسطين والشتات العربي كله».
تتحضّر الفنّانة الآن لجولة عالمية تحمل عنوان الألبوم بين تشرين الأوّل (أكتوبر) وكانون الأوّل (ديسمبر) المقبلَين، فيما لم تكد تعلن عنها على صفحاتها على منصّات التواصل، حتّى انكبّت التعليقات الداعمة والمتحمّسة، وراح معجبوها يطلبون منها إضافة حفلات في مدن أوروبية وعربية، بما في ذلك بيروت. هذا الحماس يُظهر أنّ الجولة سترسّخ مكانتها كواحدة من أفضل المغنّيات العربيّات حاليّاً، ليس في الدول الناطقة باللغة فقط، بل في العالم بأسره. والأهمّ، سوف تُعدّ أوّل مَن دشّن البوب العربي كموسيقى عالمية، بعدما كسرت حدود اللغة، حافرةً مكانًا لاسمها بين أبرز المبدعين في التاريخ ممّن كانوا روّاد التغيير في عالم الموسيقى.
سيرياهوم نيوز١ _الاخبار