طارق العياري
لطالما حاول حزب الغرب في بلادنا، وفي سبيل الدّفاع عن مواقعه وامتيازاته وخياراته، أن يتعامل مع مشاعر الغضب والقهر والإحساس بالحقد على الغرب وعلى الكيان منذ أن حلّت عساكرهم في بلداننا بطرق مختلفة بحيث يحجب شرعيتها وعدالتها وبديهيتها. أوّلاً، فقد حاولت بعض البورجوازيات الحاكمة، عبر سرد تاريخ آخر للاستعمار، ترويج روايات تُفنّد مُقاومة «الأهالي» للغزاة، حيث يتمّ مثلاً استخدام حوادث معزولة تاريخياً للتدليل على أن الأهالي استقبلوا الغزاة استقبال الفاتحين (مثل ما أُريد لنا أن نرى غزو العراق)، أو تضخيم المنشآت التي خلّفها الاستعمار وراءه بُعيد انسحابه، أو مُحاولة طمس تاريخ العنف والإبادة الذي مارسه من التاريخ الرّسمي عبر البرامج الدّراسية أو الحديث على أنه حماية وليس استعماراً واستيطاناً، وتغييب تاريخ الحياة اليومية والتاريخ الاجتماعي في عهده لفصل وجوده عن معاناة النّاس اليوميّة، والاكتفاء بتصويره كأنّه أجّر من عندنا قواعد عسكرية فقط، ولم يكن إطاراً ناظماً للقهر في حياة آبائنا وأجدادنا.
ثانياً، يُحاول حزب الغرب تمييز الحقد ومشاعر القهر، التي نعيشها الآن أو عاشها أجدادنا، تمييزاً سلبياً بإلصاق عناوين مذمومة عليها؛ فيصير الحقد الطبقي حسداً على النّجاح أو حقداً شيوعياً، وتصير مقاومة الشعوب لاستعمارهم نتيجة للحقد على النّصارى (كما صوّر الفرنسيون سبب مقاومة شمال أفريقيا لاستعمارهم)، أو يصير القتال لتحرير فلسطين حرباً على اليهود بما أنّهم يهود (رغم أن اليهود عاشوا في كنف الإسلام أفضل ممّا عاشوه في أوروبا). يكفي لمتابعة ذلك متابعة تقلّب الإعلام الخليجي بين الوُصوم التي يُلصقها ضدّ كلّ مَن يرفع السلاح على الغرب، فتارة هم شيوعيون عملاء للسوفيات، وطوراً هم «إسلاميون إرهابيون» ثُمّ هم عملاء لإيران. يُحاول هذا المنطق طمس إنسانيّة الشعور بالحقد والرغبة في المٌقاومة والانتقام، فلا يَحِقُّ للمضطهد ذلك لأنّه حيوان ولأنّه في درجة أدنى من الإنسان، يحقّ لنا التذكير بأنّ كلام يوآف غالانت عن الوُحوش البشريّة ليس استثناءً ولا سابقةً في الفكر الغربي، فقد ذكر لنا فرانز فانون ما اعتقده أساتذة التشريح الفرنسيون في الجزائر أنّ العربي عنيف وهمجي بطبعه ولخصائص تشريحية في جمجمته، وأنّه لذلك لا يفهم إلاّ لُغة العنف بما أنّه حيوان. ولا يستحقّ حرّيته لأنّ غرائزه ما يقوده لا عقله، ولذلك قتل الفرنسيون في أيّام معدودة عشرات الألوف من الجزائريين أيّاماً قليلة بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، رغم أنّ عدداً مهمّاً من الجزائريين قاتل معهم في أوروبا. يجدر أن نشير إلى أنّ الفرنسيين نكّلوا تنكيلاً بعملاء الألمان بعد انحسار النّازية عن أوروبا، وأنّ حلفاءهم قصفوا مدينة درسدن الألمانية قصفاً همجياً «انتقامياً» غير مسبوق لا يُبرّره مسار الحرب، حيث إنّهم مارسوا التشفّي والانتقام ولم ير أحد منهم في ذلك عيباً في الوقت الذي يشنّعون فيه على ردّة فعل السوفيات، رغم أنّ الأخيرين كانت خسارتهم البشريّة هي الأكبر خلال الغزو الألماني.
الانتقام مُسيّساً
«قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ» – (التّوبة، الآية 14).
وفي تفسيرها قال الطّبري: «ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه».
تُذكّر الآية الكريمة وتفسير الطّبري لها بكلام فانون حول أنّ العنف الثوري هو الترياق للعنف الاستعماري لأنّه يُعيد للمُستعمَر آدميته ويعطيه الأمل في الوصول يوماً للتخلّص من ظلم الاستعمار وطغيانه وتشكيل ذاتية جديدة للمُستعمَر غير ذاتيته المسحوقة تحت أطنان من الاستعباد والقهر.
إنّ الاستعمار حدث عنيف لأنّه يمارس العنف في أقصى أشكاله، ولأنّه حين خفوت العنف يُمارس قهراً يوميّاً يمسُّ حياة الناس في أدقّ تفاصيلهم ويُثير فيهم يوميّاً كلّ مشاعر الحقد ورغبات الانتقام والثّأر. حرص الاستعمار دوماً على ديمومة تفوّق المستوطنين وتفوّق عملائه على بقيّة الأهالي، فمن الحقّ في التعلّم إلى الحق في الغذاء إلى الحق في العمل وتمكينهم من أخصب الأراضي إلى العيش في ظروف مريحة بداية من الحصول على الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء إلى الفضاء الكافي لتنمية المدارك وتحقيق الذاتية، مقابل احتشاد بقية الأهالي في خيام لا تقي حرّاً ولا برداً ولا مرضاً.
شخصيّاً، لم أفهم الاستعمار عن قرب إلّا لمّا زرت قبل سنوات مزرعة قديمة كانت على ملك مستوطن فرنسي، نسمّيه في تونس «مُعَمِّر»، وحدّثني مُتسوّغُها وقتها أن ابنة «المُعَمّر» زارتها وتحسّرت عليها وعلى أيامها فيها. كان البناء بالحجارة والاسمنت في الوقت الذي وُلد فيه والدي في خيمة في سفح الجبل وقتها (الأدهى أن محدّثي رأى ذلك طبيعياً ولا يثير الحنق).
وفي تاريخنا العربيّ، حتى القريب منه، كانت مشاعر الحقد المكبوتة مُحرّكاً أساسيّاً وصمام أمان نسبي لجذرية المٌقاومة الشعبية ولحماسة بعض القادة كعبد النّاصر. خلال المفاوضات مع البنك الدولي من أجل قرض إقامة السّد العالي، قال عبد الناصر لسفيره في واشنطن، بعدما يئس من إقناعه بأنّ الأميركان يناورون ولن يعطوه القرض، بأن لا يقترف ما يهين كرامة المصريّين وبأن يقتني أيّ كتاب عن إنشاء قناة السويس ويقرأه قبل العودة للمفاوضات في واشنطن، وقال له ستفهم بعد أن تقرأ. في محاضرة له بعنوان «الوطن العربي في العصر العثماني»، ذكر موفّق محادين أنّ الضباط الصغار الذين قادوا الثورات في المشرق العربي، ونظراً إلى أصولهم الفلاحية (أدمجتهم بريطانيا كضبّاط نظراً إلى حاجتها لتجنيدهم من أجل الحرب العالمية الثانية) وللقهر الذي عاشوه لم يكونوا مُؤدلجين أو مُسيّسين بقدر ما كانوا حاقدين، وقد كان الحقد على تاريخ الاضطهاد والمهانة الذي عاشوه هو محرّكهم الأساسي لا البرامج والمخططات.
وفي مقابل كلام ناصر، ينقل الشاذلي القليبي في كتابه «تونس وعوامل القلق العربي» كلام بورقيبة قبل الاستقلال وهو يُلقّن الشباب الذين سيصيرون بِطانته تالياً (وكلّهم تعلّموا في فرنسا) بأنّ معركتهم ضدّ فرنسا هي معركة ضدّ خصم وليست ضدّ عدوّ. وهذا الحديث في قلب المعركة كاشف جدّاً ويفسّر انحياز النخبة التونسية الحاكمة للغرب لاحقاً (حتى في حرب فييتنام).
ليس الحقد هو ما ينقصنا حالياً، وهو ليس عيباً ولا مذمّة بل حقّ وواجب، ولن تكون تبعات الحرب على غزّة هيّنة أبداً. فلئن تمّ تصريف العنف العربي اللّاحق على حرب العراق ومعركة «الفرقان» في غزة في ثنايا الربيع العربي التائه وغير الموجّه ضدّ العدوّ كما يحقّ، فإنّ وحشاً حقيقياً يختمر في قلوب العرب وجب توجيهه سياسيّاً وبأدوات سياسية جدّية ومهيكلة حزبياً وفكرياً نحو أسبابه الحقيقية (الكيان والغرب)، كي لا يصنع لنا كارثة أخرى تكون «داعش» وأخواتها أمامها حمَلاً وديعاً، كما توقّع الدكتور كمال خلف الطويل في بودكاست «أرض».
ختاماً، نشر صديق مصري على حسابه على «الفايسبوك» مقطعاً مترجماً عن الروسية يورد فيه قَسَم الانضمام إلى المقاومة الحزبية في المناطق السوفياتية المحتلّة يصلح لأن يكون قسَماً لكلّ عربي مُسيّس يٌقسم على تحرير فلسطين وتطهيرها:
«أنا مواطن في الاتحاد السوفياتي العظيم، ابن الشعب الروسي البطل، أقسم بأنّني لن أترك سلاحي حتّى تدمير آخر وغد فاشي على أرضنا. من أجل المدن والقرى المحترقة، من أجل موت نسائنا وأطفالنا، من أجل تعذيب وإذلال شعبي، أُقسم بأن أنتقم بكلّ قسوة وبلا رحمة أو كلل».
* كاتب عربي من تونس
سيرياهوم نيوز١_الاخبار