} حسن حردان
تماماً كما سارعت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس إلى التبشير بـ «الشرق الأوسط الجديد» مع بدء العدوان «الإسرائيلي» ـ الأميركي على لبنان في تموز من العام 2006، وانتهى بالتلاشي مع هزيمة جيش الاحتلال في الميدان.. عمدت السفيرة الأميركية في بيروت إلى الاستعجال في الترويج لما أسمته بمرحلة ما بعد حزب الله، لكن حلم أميركا المتجدّد سوف يتلاشى أيضاً.. لأنّ مؤشرات الميدان في الأسبوع الثالث للحرب الجديدة على لبنان باتت تشير الى أنها ستفضي الى ذات نتائج حرب تموز من الفشل والهزيمة، وانّ الرهان على اغتيال بعض قادة حزب الله لم يؤدّ إلى نهايته او إضعافه او تفككه، ولهذا فإنّ حلم واشنطن المستجدّ بإنشاء واقع سياسي جديد في لبنان يمكن واشنطن من تحقيق أهدافها في إعادة صياغة نظام الحكم اللبناني بما يؤمّن لها الهيمنة الكاملة على لبنان.. وإنهاء وجود المقاومة التي أحدثت انتصاراتها تحوّلاً في موازين القوى الداخلية حدّت من هذه الهيمنة، وجعلت من لبنان مصدر قلق دائم للمشاريع والمخططات الأميركية «الإسرائيلية» في لبنان والمنطقة.. إنّ هذا الحلم لن يتحقق وسوف يبوء بالفشل ومصيره الخيبة والخذلان، تماماً كما باءت بالفشل كلّ محاولات أميركا السابقة لسحق هذه المقاومة، التي باتت عقبة كأداء أمام تطلعات كلّ من أميركا وإسرائيل لتصفية قضية فلسطين، وإقامة مشروع الشرق الأوسط الجديد وفق تصوّراتهما الاستعمارية لأحكام هيمنتهما على كامل المنطقة وثرواتها النفطية والغازية وغيرها من الثروات الباطنية من مياه عذبة ومعادن ثمينة، إلى جانب التحكم بطرق وعقد بحرية هامة للتجارة الدولية تربط بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا..
على انّ هذه الأبعاد والمضامين التي تقف وراء الترويج الأميركي الجديد القديم لمرحلة ما بعد حزب الله، وتشنّ من أجلها هذه الحرب «الإسرائيلية» الأميركية على لبنان، والتي جرى الإعداد لها قبل عملية طوفان الأقصى النوعية في 7 تشرين الأول من العام 2023 التي فاجأت كيان الاحتلال والغرب، وأحدثت زلزالاً في كيان العدو وعواصم الغرب، هي التي دفعتهم إلى تقريب موعد تنفيذ حربهم للقضاء على المقاومة في غزة، ومن ثم الاستدارة بعد ذلك إلى شنّ الحرب على لبنان لسحق المقاومة فيه، بما يفتح الطريق واسعاً أمام تنفيذ المشاريع والمخططات الأميركية الإسرائيلية في لبنان والمنطقة..
لكن وقائع الميدان جاءت على غير ما تشتهي سفن أميركا و»إسرائيل»:
أولاً، المقاومة في غزة فاجأت الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، بقدراتها على الصمود والمواجهة وخوض القتال الطويل النفس، واعتماد تكتيكات متطورة في حرب العصابات والمدن استنزفت جيش الاحتلال واغرقته في وحول غزة، مرتكزة إلى بنية حصينة للمقاومة في مدن من الأنفاق تحت الأرض، وفرت لها الحماية من الغارات الجوية «الإسرائيلية» المدمرة، ومكنتها من الاحتفاظ بالعدد الأكبر من الأسرى الصهاينة ومنع جيش الاحتلال من الوصول إليهم.. رغم الحصار الخانق المفروض على القطاع من كلّ الجهات.. فيما الشعب الفلسطيني قدّم نموذجاً أسطورياً في الصمود والثبات والالتفاف حول المقاومة ورفض الخضوع للإرهاب الصهيوني..
وها هي الحرب تجاوزت العام على اندلاعها، ولا يزال جيش الاحتلال غير قادر على تحقيق أهدافه في القضاء على المقاومة، واستعادة أسراه بالقوة، وفرض سيطرته على قطاع غزة.. وان كان استشهاد القائد المقاوم رئيس حركة حماس في ميدان القتال قد اعتبره العدو إنجازاً، لكن شهادته عكست بطولة ومثالاً للتضحية لكل أبناء الشعب الفلسطيني وفشلاً استخبارياً «إسرائيلياً»، ستزيد تأجيج المقاومة وشعبيّتها، على عكس ما يتوقعه الاحتلال..
ثانياً، اما المقاومة في لبنان فقد أدركت قيادتها منذ اليوم الأول لبدء العدوان على غزة، أهداف العدو ومخططاته، وأنه اذا ما حقق أهدافه في غزة سوف يتجه إلى لبنان، ولهذا سارعت إلى فتح جبهة الجنوب لإسناد غزة ومقاومتها واستنزاف العدو والضغط عليه لوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وتمكين مقاومته من تحقيق مطالبها، وحاولت المقاومة تجنيب لبنان الحرب الواسعة، واعتمدت استراتيجية تقوم على حصر جبهة الإسناد بين جنوب لبنان وكيان الاحتلال بعمق يتراوح من 5 _ 10 كلم وتستهدف المواقع العسكرية والأمنية للعدو، بما تجنب المدنيين اللبنانيين ويلات الحرب.. انطلاقاً من المعادلة التي ثبتتها المقاومة خلال عدوان «عناقيد الغضب» في نيسان من العام 1996 وأعادت تثبيتها في تموز عام 2006.. لكن العدو الصهيوني الذي واجه الفشل في غزة وتفككت جبهته الداخلية على خلفية فشله في استعادة الأسرى، وأصبح يعاني من نزف متفاقم في الشمال نتيجة حرب الاستنزاف المكلفة له التي تشنها المقاومة ضده، وبالتالي بات في مأزق كبير، بدلاً من الذهاب إلى صفقة مع المقاومة في غزة تنهي الحرب وتوقف النار على جبهة لبنان، وتعيد النازحين الصهاينة إلى مستعمراتهم في الشمال، عمد إلى الهروب إلى الأمام عبر الانتقال من التركيز عسكرياً على غزة كما زعم، إلى الرمي بثقله العسكري على جبهة الشمال والبدء بشن الحرب على لبنان لتحقيق هدفه، فصل جبهة الجنوب عن غزة، وإعادة المستوطنين إلى مستعمراتهم بالقوة، لكنه كان يضمر إلى أبعد من ذلك، فهو أراد العودة إلى محاولة تحقيق أهدافه التي فشل في تحقيقها في حرب تموز عام 2006، والتي انتعشت مع نجاحه في البداية في اغتيال بعض قادة المقاومة وفي الطليعة قائدها الرمز أمين عام حزب الله السيد الشهيد حسن نصر الله، وتبيّن انّ واشنطن تشارك كيان العدو في العمل على تحقيق ذلك، وما إعلان السفيرة الأميركية عن التبشير بمرحلة ما بعد حزب الله، إلا دليل ساطع على هذا الانخراط الأميركي، أمنياً وعسكرياً وسياسياً، في العدوان على لبنان.. واغتيال القائد الكبير الشهيد السيد حسن نصر الله…
لكن الوقائع والتطورات، بعد ذلك، جاءت بعكس ما تأملانه كلّ من واشنطن وتل أبيب:
1 ـ حزب الله تعافى سريعاً، وعادت منظومة القيادة والتحكم والسيطرة لديه إلى العمل بشكل منتظم كما كانت قبل استشهاد أمينه العام…
2 ـ المقاومة في الميدان لم تتوقف عن مواصلة جبهة إسناد غزة، بل توسعت في ضرباتها كمّاً ونوعاً لتطال مناطق واسعة في الشمال الفلسطيني المحتلّ.
3 ـ مع انتقال العدوان الصهيوني من الجو إلى البر، تبيّن انّ المقاومة على طول مناطق الحدود لم تتراجع، نتيجة مئات الغارات الجوية الصهيونية، التي استهدفتها، كما لم تضعف عزيمتها بعد اغتيال العديد من قادتها، بل على العكس ازدادت قوة وعزيمة، وأظهرت بأساً وشدة وإرادة صلبة منقطعة النظير في التصدّي لقوات النخبة في جيش الاحتلال ودباباتهم والمدعومين من الطيران، وأوْقعت بهم الخسائر الفادحة، ومنعتهم من تحقيق أيّ تقدّم يعتدّ به في القرى الحدودية وتلالها، وبلغت الخسائر، بعد أسبوعين ونيّف على بدء العدوان البري، أكثر من 55 قتيلاً ومئات الجرحى، وما يفوق العشرين دبابة والعديد من الآليات.. فيما المعارك لا تزال تدور في المناطق المحاذية للحدود مباشرة.. الأمر الذي أشر إلى ضراوة المقاومة، وثباتها، ونجاحها في اعتماد تكتيكات تمزج بين الدفاع وحرب العصابات، مما أدّى إلى تكبيد جيش الاحتلال هذه الخسائر الكبيرة.. هذا عدا عن الخسائر التي توقعها صواريخ ومُسيّرات المقاومة التي تستهدف مواقع جيش الاحتلال في المدن والمستعمرات في الشمال والعمق الصهيوني.. والتي يتكتم بشأنها العدو.
هذه النتائج المفاجئة لجيش الاحتلال أدّت إلى بدء تسلل حالة الإحباط واليأس إلى داخل المؤسسة العسكرية الأمنية «الإسرائيلية»، التي راحت تقول انّ عدم تحقيق التقدم براً حتى الآن، ناتج عن انّ «حزب الله بات يملك عشرات الآلاف من القوات العسكرية النظامية، وفي الاحتياط، ولم يختف، وهو يقاتل عن بقائه، وهو يستخدم كلّ الأدوات التي يملكها»، فيما أقرّت هذه الجهات «الإسرائيلية» أنّ حزب الله «بعد الاضطراب الذي تسبّبت به الضربات القاسية التي وجهت إلى الجيل المؤسس للحزب، وسلسلة القيادة الرفيعة المستوى، يبدو أنّ الحزب نجح في التعافي»… وفي هذا السياق قال عضو حركة الأمنيين دورون ماتسا إنه يستشعر «طعماً مراً للحرب الحالية، كما كان في حرب لبنان الثانية، التي انتهت بنتيجة تعادل غير المرغوب بها إسرائيلياً».
ومع انّ جيش الاحتلال ومعه الكيان كله دخل في حرب استنزاف كبيرة وغير مسبوقة نتيجة قدرات المقاومة في خوض المعارك البرية، وفي مواصلة الضرب في كلّ فلسطين المحتلة بسبب امتلاكها القدرات الصاروخية الكبيرة والمتنوعة، إلى جانب المُسيّرات، مما يربك قادة العدو ويجعلهم يغرقون في مأزق كبير لكيفية الخروج منه، في ظلّ صعوبة، إذا لم نقل استحالة تحقيق أهدافهم، هناك في المؤسسة العسكرية والأمنية، من لا يزال يرى انّ الحلّ يكمن بالمزيد من نار التدمير والتهجير، لفرض تسوية على حزب الله بالشروط الإسرائيلية، مع انّ المراقبين وضباط سابقين في جيش الاحتلال يحذرون من الاستمرار في سلوك هذا الخيار انطلاقاً من فهمهم بأنّ حزب الله تنظيم جهادي، وما زال يحتفظ بقدرات تربك «إسرائيل»، وتلحق بها ضرراً حقيقياً، واستمرار المواجهة معه سيؤدي إلى حرب استنزاف طويلة.
من هنا، أليس هذا الواقع هو الذي ساد بعد ثلاث أسابيع من بدء حرب تموز 2006، وكانت حينها قدرات المقاومة، كما ونوعا، أقلّ مما هي عليه اليوم بكثير.. لذلك من الطبيعي ألا تكون النتائج النهائية للحرب مختلفة، مهما طالت، سوى من ناحية الحجم الكبير للخسائر الناتجة عنها.. لهذا فإنّ وقائع الميدان ومآلاته تؤشر إلى أنّ نتائج حرب تموز 2006. ستلوح بالأفق مجدّداً في حرب عام 2024 عاجلاً ام آجلاً..
سيرياهوم نيوز١_البناء