علي عواد
تُظهِر التقارير الآتية من الولايات المتحدة قمعاً منهجياً داخل المؤسسات الطبية والأكاديمية ضد العاملين الذين يتحدثون عن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة. يشير عدد من الكوادر الطبية إلى أنهم يواجهون ضغوطاً وتهديدات بالفصل أو تعليق العمل لمجرد ارتداء شارات تضامنية مع فلسطين أو الحديث علناً عن الانتهاكات الإنسانية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي
يعاني القطاع الصحي في فلسطين من واقع مأساوي بفعل سياسات الاحتلال الإسرائيلي، إذ يشهد تدميراً ممنهجاً للبنية التحتية الصحية واستهدافاً مباشراً للمستشفيات والعيادات الطبية، ما يؤدي إلى شلل شبه كامل في تقديم الخدمات الصحية للسكان. كما يعاني المرضى الفلسطينيون في قطاع غزة، من صعوبات بالغة في الحصول على العلاج المناسب بسبب القيود المشددة التي يفرضها الاحتلال على إدخال الإمدادات الطبية الأساسية، بما في ذلك الأدوية والمعدات الحيوية. تزيد هذه القيود من معاناة المصابين بأمراض مزمنة، مثل مرضى السرطان والكلى، وتُعدّ هذه الفئات الأكثر تضرراً من غياب الرعاية الصحية الكافية.
في هذا السياق، برزت تحركات تضامنية من قبل كوادر طبية في دول مختلفة، ومنها الولايات المتحدة، لمناصرة القضية الفلسطينية عبر أنشطة رمزية وإعلامية. تشمل هذه الأنشطة ارتداء شارات مثل «فلسطين حرة» التي تعبّر عن دعمهم للشعب الفلسطيني ورموز البطيخ التي تحمل دلالات تاريخية في السياق الفلسطيني. علاوةً على ذلك، يشارك هؤلاء العاملون في إلقاء محاضرات وندوات علمية تشرح الآثار الكارثية للاعتداءات الإسرائيلية على الصحة العامة، مثل انتشار الأمراض الناتجة من التلوث أو نقص الغذاء والماء النظيف بسبب الحصار. وفي أيلول (سبتمبر) الماضي، أصدرت مجموعة من العاملين الصحيين والعلماء في كلية الطب في جامعة «ستانفورد» رسالةً مفتوحة تنتقد صمت مؤسستهم وتواطؤها مع الشركات التي تدعم جرائم الحرب والفصل العنصري الإسرائيلية. نددت الرسالة بعدم اتخاذ «ستانفورد» أي موقف حازم يدعم حقوق الفلسطينيين، وطالبت بتغيير هذا الوضع عبر إجراءات عدة، أبرزها التوقف عن الاستثمار في الشركات التي تساعد في تمويل الجرائم ضد الفلسطينيين. كما دعت الرسالة إلى دعم الرعاية الطبية والتعليمية للفلسطينيين، بما في ذلك إرسال مساعدات طبية إلى غزة، وتوفير الفرص التعليمية للطلاب الفلسطينيين في مجال الطب. إضافة إلى ذلك، طالبت الرسالة بإنهاء الرقابة على الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعة، والاعتراف العلني بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، وهو ما يعتبره الموقعون خطوةً ضروريةً لتصحيح الموقف الإنساني والأخلاقي لـ «ستانفورد».
لكن رغم تنوّع طرق تعبير الكوادر الصحية عن الإبادة، إلا أنّها لا تزال تواجه قيوداً صارمة تتجلى في سياسات وقوانين تهدف إلى قمع هذه الأصوات تحت ذرائع مختلفة. في جامعة «كاليفورنيا في سان فرانسيسكو» (UCSF)، يتعرض العاملون الصحيّون الذين يتحدثون عن الإبادة الجماعية في فلسطين أو يعبرون عن تضامنهم مع الفلسطينيين لسلسلة من الإجراءات التأديبية والممارسات القمعية التي تهدف إلى إسكات أصواتهم. يفيد تقرير نشره موقع «ذي إنترسبت» قبل أيام بكمّ كبير من المعلومات والتفاصيل عن جامعة UCSF التي ترسل موجات من الغضب في النفوس، وتكشف عن إجراءات تشمل التهديد بالفصل والتعليق عن العمل والاستجواب وتحويل الكوادر الصحية إلى أشخاص منبوذين من قبل زملائهم والإدارة. على سبيل المثال، أُجبرت الممرضة بريجيت روشيوس، على إزالة دبابيس تحمل عبارة «فلسطين حرة» وشعار البطيخ، وجرى تهديدها بالفصل إذا استمرت في ارتداء هذه الرموز. روشيوس، التي سافرت إلى غزة للمساهمة في تقديم الرعاية الصحية تحت القصف، عوقبت بتعليق عملها لأشهر بسبب ما وصفته الإدارة بـ «العصيان». لم تكن روشيوس الوحيدة، إذ تعرضت الطبيبة روپا ماريا، وهي أستاذة في الطب، للانتقادات الحادة والتهديدات بعدما نشرت على السوشال ميديا منشورات تنتقد الصهيونية باعتبارها «أيديولوجيا عنصريّة متفوقة». تعرضت ماريا لحملة استهداف واسعة من زملائها ومن شخصيات سياسية، مثل السيناتور سكوت وينر، الذي اتهمها بمعاداة السامية. أدى ذلك إلى تعليق عملها ومنعها من دخول الحرم الجامعي، بما في ذلك المستشفى الذي كانت تعمل فيه، بحجة التحقيق في منشوراتها، رغم أنها تُصنف ضمن إطار حرية التعبير الأكاديمي. كما واجهت هجمات شخصية من خلال تهديدات عبر الإنترنت، تتضمّن تهديدات بالقتل والعنف الجنسي، ما زاد من حدة القمع الذي تعرضت له.
من جانب آخر، تعرض أستاذ الطب النفسي البارز، الدكتور جيس غنّام، لإلغاء محاضراته حول الآثار الصحية للاحتلال الإسرائيلي، بحجة أنّها قد تسبّب «ضيقاً» للطلاب. إحدى محاضراته أُلغيت قبل أيام قليلة من موعدها لأن الجامعة زعمت أنها لا تستطيع توفير «خدمات دعم نفسي» للطلاب الذين قد يتأثرون بمحتوى المحاضرة. لاحقاً، نظّم الطلاب محاضرة مستقلة حضرها أكثر من 100 شخص، ما يبرز الرفض الطلابي لهذا النوع من الرقابة القمعية.
لم تتوقف الممارسات عند المحاضرات أو الرموز البسيطة مثل الدبابيس، بل شملت حتى النقاشات اليومية في مكان العمل. تعرض الرئيس السابق لقسم الجراحة، كيث هانسن، لوصفه بأنه «شخص مثير للجدل» فقط لأنه أرسل بريداً إلكترونياً إلى زملائه يلفت انتباههم إلى القصف الإسرائيلي للمستشفيات في غزة. وفي محاضرة أخرى، كشف هانسن عن أصوله الفلسطينية للمرة الأولى وتحدث عن الفجوة الصحية الهائلة بين الفلسطينيين تحت الاحتلال والإسرائيليين، لكنه قوبل بشكاوى من زملاء اتهموه بخلق بيئة عمل غير آمنة. حتى الرموز الصغيرة كانت كافية لإثارة غضب الإدارة. إحدى الممرضات، تُدعى روزيتا، صمّمت دبابيس على شكل بطيخ وزعتها على زملائها. ورغم أنّ المستشفى يسمح بارتداء رموز تدعم قضايا أخرى مثل حقوق مجتمع المثليين أو «حياة السود مهمة»، فإن هذه الدبابيس وُصفت بأنها «معادية للسامية»، وجرى استدعاء روزيتا إلى جلسة استماع، طُلب منها إزالة الدبوس تحت تهديد الفصل. وعندما رفضت، بعثت رسالة إلى مديرها عبر البريد الإلكتروني تصف فيه القرار بأنه «تمييز وإنكار لوجود الشعب الفلسطيني».
كذلك، تعرضت الطبيبة وأستاذة طب الأسرة، لي كيمبرغ، للحظر المؤقت من إلقاء المحاضرات بعدما تحدثت لمدة ست دقائق فقط عن الصحة في غزة ضمن محاضرة حول العناية بالصدمات. وأزيل تسجيل محاضرتها من موقع الجامعة، كما تلقت شكاوى تتهمها بـ «التحيز ومعاداة السامية». واستغرق الأمر جهوداً قانونية ومراسلات مكثفة لإعادة السماح لها بإلقاء المحاضرات، لكن طُلب منها الامتثال لقواعد صارمة بشأن محتوى محاضراتها في المستقبل.
تعرّض أستاذ الطب النفسي جيس غنّام لإلغاء محاضراته حول الآثار الصحية للاحتلال الإسرائيلي
الممارسات القمعية ضد الكوادر الصحية في UCSF لا تتوقف عند الحدود الإدارية فقط، بل تمتد لتشمل بيئة العمل والعلاقات الشخصية. فعدد من الموظفين والطلاب ذكروا أنّ مواقفهم المؤيدة لفلسطين جعلتهم يشعرون بالعزلة بين زملائهم. على سبيل المثال، قال كيث هانسن إنّه بعد حديثه عن أصوله الفلسطينية، بدأ عدد من زملائه الذين كانوا ودودين معه سابقاً بتجاهله في المناسبات الرسمية.
تتعدّد الأسباب التي تدفع المؤسسات الأكاديمية والطبية إلى قمع الكوادر الصحية عن التحدث حول القضايا المتعلقة بالإبادة الجماعية في فلسطين أو الاحتلال الإسرائيلي، وأحد الأسباب الرئيسية هو الحفاظ على علاقات مالية وسياسية قوية مع الجهات المؤيدة لإسرائيل. المؤسسات، مثل جامعة «كاليفورنيا في سان فرانسيسكو»، تعتمد على تمويلات ضخمة من جهات مانحة لها تأثير كبير على سياساتها. في حالة UCSF، تعد مؤسسة «هيلين ديلر»، التي تبرعت بمبالغ ضخمة للمؤسسة، من أبرز المانحين الذين لديهم علاقات وثيقة مع مؤسسات داعمة لإسرائيل. هذه المؤسسة، التي يديرها أفراد من عائلة ديلر، قدمت حوالى مليار دولار للجامعة على مدى السنوات الماضية، ومن بين تبرعاتها السابقة دعم مجموعات تدافع عن إسرائيل، مثل «كاناري ميشين» وهو موقع إلكتروني يُشهِّر بالناشطين الطلابيين والأساتذة والمنظمات في أميركا الشمالية الذين ينتقدون السياسات الإسرائيلية. وفي عام 2021 بعد تقديمها تبرعاً بقيمة 10 ملايين دولار إلى معهد «بيركلي للقانون اليهودي والدراسات الإسرائيلية»، غيّر اسمه إلى معهد «هيلين ديلر للقانون اليهودي والدراسات الإسرائيلية».
جانب آخر من القمع يتعلق بالضغط السياسي الذي تمارسه شخصيات بارزة مثل السيناتور سكوت وينر، الذي يشغل منصب عضو في مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا. وينر، الذي يعد من أبرز داعمي إسرائيل في السياسة الأميركية، لعب دوراً بارزاً في مهاجمة الأكاديميين والكوادر الصحية الذين يتحدثون عن حقوق الفلسطينيين أو ينتقدون سياسات إسرائيل. فقد صرح علناً بدعمه للمؤسسات التي تعاقب الموظفين الذين يعبّرون عن مواقف مؤيدة لفلسطين، واتهمهم بالتحريض على معاداة السامية.
تُظهر هذه الأحداث كيفية عمل اللوبيات السياسية الإسرائيلية في قمع الكوادر الصحية وأي صوت يعارض السياسات الإسرائيلية. اللوبيات المؤيدة لإسرائيل، مثل «أيباك» AIPAC وغيرها من المجموعات التي تروّج لسياسات الصهيونية في الولايات المتحدة، تتمتع بنفوذ هائل، ما يسمح لها بالضغط على المؤسسات الأكاديمية والطبية. لا تقتصر اللوبيات على محاولات الضغط على الأفراد فقط، بل تشمل أيضاً تحريك القوى السياسية التي أوصلتهم إلى مناصبهم، فتجري إدارتهم بشكل يضمن استمرار دعم السياسات الإسرائيلية. وعدد من السياسيين الذين ينتمون إلى الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، قد صعدوا بفضل الدعم المادي والسياسي الذي توفره هذه اللوبيات. وبالتالي، يصبح هؤلاء السياسيون في موقع الناطقين باسم إسرائيل لا باسم الولايات المتحدة.
أخبار سورية الوطن ١_الاخبار