في تسعينات القرن الماضي، عايشتُ السقوط المدوي – بكل مآسيه – لدولة كبرى هي الاتحاد السوفياتي على يد الرئيس غورباتشوف . واليوم يتكرر المشهد نفسه مع رئيس دولة كبرى اخرى ، هي امريكا ، يحمل بيده فاسا حادا ،يدمر به كل عوامل القوة التي مكنت الولايات المتحدة من الوصول الى عرش العالم ،وبناء الامبراطورية ” التي لا تغيب الشمس عنها ” .وفي كلتا حالتي انهيار الاتحاد السوفياتي ، وبداية تصدع امريكا ،فانه يمكن ملاحظة امرمشترك بينهما هو: التسوس الذي نخر رأس السلطة في موسكو، وبدأ ينتشرالآن في رأس قاطن البيت الابيض . في الاتحاد السوفياتي تم ذلك تحت يافطة “اعادة البناء “، وفي امريكا تجري حالة الانهيار هذه تحت شعار ” أمريكا اولا !”
وساتحدث عن ذلك – اي عن امريكا – بالتفصيل .
منذ اليوم الاول لوصوله الى البيت الابيض ، بدأ الرئيس ترامب هجوما غير مسبوق على العناصر الى امدت امريكا بالقوة والنفوذ . واولها لا بل في طليعتها ،ما يسمى بالمرتكزات الى قام عليها الحلم الامريكي ، والذي اشعل حماس الامريكيين الاذكياء للبناء ، وجذب الى الولايات المتحدة القوى البشرية المنتجة من كل اصقاع الكرة الارضية . وقد رفد سيل الهجرة هذا امريكا بالتنوع والغنى، ومكنها من تجديد طاقاتها وشبابها ، وبناء قوتها . وكان القادة الامريكيون يفاخرون بانهم دولة هجرة ، وان بلادهم هي ارض الفرص والمساواة والعدالة والحرية ، لكل من يطأ ارضها بغض النظر عن بشرته ودينه وقوميته .فضلا عن ذلك ، فان المهاجرين نشروا نفوذ امريكا ، وروجوا لنمط حياتها في العالم .واليوم ، نرى ان اول خطوة اتخذها ترامب هي الهحوم على المهاجرين،تحت شعار ( مكافحة الهجرة غير المشروعة ) ، وتشديد قوانين الهجرة ، وخلق حالة من العداء الداخلي للمهاجرين ،وتأجيج المشاعر العنصرية ضدهم ، وتشجيع ودعم المنظمات المتطرفة التي ترفع شعار : “امريكا للبيض” ، وازاحة السود الملونيين من مراكز القيادة ( كما حدث في قيادة الجيش الامريكي ) ! .اضافة الى ان ترامب قد الغى اوامر تنفيذية تهدف الى مساعدة السود واللاتينيين والامريكيين الاصليين والاسيويين ، وتوطين اللاجئيين داخل امريكا .
والخطوة التالية التي اقدم عليها ترامب ـ هي العمل على تأسيس نظام سياسي جديد في امريكا ، يقوم على الموالاة عوضا عن الكفاءة والخبرة . والموالاة هنا لا يقصد بها التبعية للحزب الجمهوري ـ بل هي لترامب شخصيا .ولتحقيق ذلك ، بدأت حكومة ترامب حملة تسريح غير مسبوقة بذريعة ضغط النفقات ! بين الموظفين الذين لم يعلنوا موالاتهم لترامب ، وأوكل هذه المهمة القذرة لعنصري آخر هو ماسك . كما اوقف التوظيف في المؤسسات الحكومية .واقتصرت تعيينات ترامب – لا سيما في المراكز القيادية – على وجوه جديدة اغلبها غير معروف في عالم السياسة ـ ولا تملك اية خبرات قيادية ، وكل مؤهلاتها انها تمدح ترامب وتمجده. وقد طالت هذ الموجة فريق المستشارين المقربين من البيت الابيض . فلا احد من هولاء يجرؤ على مناقشة ترامب او معارضته . وهذا يشرح سبب التخبط الذي تعيشه ادارة ترامب اليوم .
وفي مجال العلاقات الخارجية ، لم يميز الرئيس ترامب بين اصدقاء امريكا وخصومها . فهو قد تجاهل تماما ان احد اعمدة توسع النفوذ الامريكي العالمي ، كان التفاف الدول الغربية حول الولايات المتحدة، ورضاها بان تكون امريكا زعيمة للغرب .ولذلك اثارت تهديات و قرارات ترامب ضد دول حليفة لامريكا الدهشة حقا . فهو قد هدد بضم كندا ، وغرينلاند واعادة احتلال قناة بنما . وفرضت ادارة ترامب رسوما جمركية عالية على سلع كل من كندا والمكسيك ، وهدد بفرض عقوبات مماثلة على الاتحاد الاوربي واليابان وكوريا الجنوبية. واذل ترامب قادة اوربا واليابان اثتاء اجتماعاته بهم في البيت الابيض .كما شن نائب الرئيس الامريكي فانس هجوما غير مسبوق على دول الاتحاد الاوربي في مؤتمر ميونيخ للامن ، وهددت شخصيات نافذة في ادارة ترامب بتقليص المشاركة الامريكية في حلف الناتو . وكانت أخر حلقة في خطوات ادارة ترامب ضد حلفائه ، الفخ الذي اعده نائب الرئيس الامريكي للرئيس الاوكراني في البيت الابيض ، والذي جرى خلاله اهانة زيلينسكي وطرده من البيت الابيض ، وايقاف المساعدات الامريكي لأوكرانيا .
هذه الاجراءات غير المسبوقة ، خلقت شكوكا كبيرة لدى الدول الغربية في جدوى التحالف مع امريكا ، ودفعت هذه الدول الى البدء بوضع خططها الامنية والعسكرية الخاصة بها والبعيدة عن امريكا . ومثل هذا التوجه يقصقص الاجنحة العالمية التي كانت تحلق بها الامبراطورية الامريكية في العالم .
ولم يكتفي ترامب بذلك ، بل امر بوقف المساعدت الامريكية المقدمة الى الخارج ( استثنى اسرائيل ) واوقف برامج المساعدات الاجتماعية التي كان يقدمها صندوق التنمية الخارجية الامريكي .ومعروف ان هذا الصندوق كان يعتبر الركيزة الاساسية للقوة الناعمة الامريكية في العالم. كما الغى ترامب عضوية بلاده في صندوق المناخ العالمي وفي منظمة الصحة العالمية وفي وكالة الاونروا. وبالتأكيد ،هناك قرارات اخرى ستتخذها ادارة ترامب ، تعمق العزلة الدولية لامريكا ، وتضعف تأثيرها العالمي . ذريعة ترامب حول ذلك هي ،ان الولايات المتحدة انفقت مئات المليارات على حلفائها ، وانها ستتوقف عن ذلك . وفي حقيقة الامر ، ان كل دولار انفقته امريكا في العالم ، كان يعود عشرة دولارات الى امريكا . فامريكا استغلت نفوذها من اجل جعل الدولار العملة الاساسية في العالم، وكذلك بهدف نهب ثروات الشعوب والدول الاخرى، وفرض الشركات الامريكية على السوق العالمية . وتبقى الفوائد السياسية والامنية التي جنتها امريكا من توسعها في العالم ، اكبر بمرات من الفوائد الاقتصادية . وهذا ما لا يراه ترامب وفريقه ، الذي اعتاد على النظر الى المكاسب من وجهة صفقات الربح والخسارة المالية فقط. .والشيء المثير للغرابة ، ان يصمت الحزب الجهوري – وهو من اعرق احزاب امريكا – على تصرفات ترامب الهوجاء هذه . لا بل ان قيادة هذا الحزب جندت نفسها لتسويغ كل القرارات والخطوات التي يتخذها ترامب والدفاع عنها! هناك تفسير واحد لذلك هو ، ان الترامبية قد اكتسحت قيادة هذا الحزب ، وان الخوف يسيطر على ما تبقى من عقلاء فيه .
واخيرا ، اشد على يدي ترامب ، واتمنى له النجاح في مهمته تفكيك الامبراطوية الامريكية ، التي – على الاقل في منطقتنا – زرعت الخراب واججت الحروب ، وشجعت الحركات الانفصالية . والاهم من ذلك كله ، ان هذه الادارة تساند بشكل اعمى خطط نتننياهو التوسعية ضد العرب ، وتسعى الى تمكين اسرائيل من الهيمنة على الشرق الاوسط . مرة اخرى اقول : اتمنى التوفيق لترامب ، فنجاحه في التسريع بغروب الامبراطورية الامريكية ، سينعكس امنا وسلاما على منطقتنا والعالم باسره .
اخبار سورية الوطن 2_غروب امبراطورية