بثينة عبدالعزيز غريبي
لو سألنا واحداً من متابعي برامج الواقع كـ”قسمة ونصيب” و”الأسد الحقيقيّ” التي تُعرض على منصّة يوتيوب:” هل تعرف محمد أركون أو زكي نجيب محمود أو طه حسين أو إدوارد سعيد أو علي الوردي أو هشام جعيط…؟ فهل كنّا لنحصل على إجابة دقيقة كسؤالنا عن:” هل تعرف وجدان أو فرح أو علي أو فارس أو أميمة أو لارا أو روشين أو يسر أو إسراء…؟”.
تحمل القائمة الأولى أسماءً صنعها فكرُها وبحوثها ونظرياتها وكُتبها. وتحمل الثّانية أسماءً صنعتها “الأوديمات” أو نسب المشاهدات والإبهار و”بيع” الوهم والإغواء بالرّبح السّريع، حتّى عاطفيّاً، بتحويل المشاعر إلى سلع تُنتج بحسب المواصفات المطلوبة والمفروضة بسيناريو يحوّل المشتركين إلى لاعبي أدوار، ليحولوا بدورهم مشاهديهم إلى لاعبي أدوار. ويجتمع الكلّ في دور استراتيجي: تدمير الثّقافة الأمّ والدّخول في قطيعة تامّة معها لتحلّ محلّها ثقافة الآخر وممارساتها فتهيمن عليها، بل وتبتلعها. وهو ما يُعرف بالهيمنة الثّقافية، وفق ما نظّر لها عالم الاجتماع بيار بورديو (1930/2002)، الذي مايز بين المثقّفين الفاعلين في الحراك المجتمعي فكريّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، وبين الشّخصيات التي لا فعل لها ولا أثر غير اللّهاث خلف الشّهرة متّخذة “الغاية تبرّر الوسيلة شعاراً لها”، ويساعدها التّلفزيون في تفعيل هذه “الغريزة” مقابل تهميش طبقة المثّقفين والمفكّرين. وبناء على ذلك، كان توصيفه التّلفزيون آلة جهنّميّة مدمّرة للعقل ومكرّسة للهيمنة الثّقافيّة. فماذا لو كان بورديو بيننا اليوم وشاهد نوعية البرامج التي تبثّ على يوتيوب: أيّ معالجة قد يقدّمها للواقع؟
لنتّفق من البداية على أنّ الإشكال ليس بالتّطوّر التّقني، سواء في المرحلة السّابقة التي ظهر فيها التّلفزيون أم في المرحلة المعاصرة بظهور هذه المنصّات الرّقميّة، ولكنّه في الاستخدامات. فالمشغل الذي يجب التّركيز عليه: كيف يمكن استخدام هذه البيئة الرّقمية بمختلف مكوّناتها الاتّصالية من دون المساس بالخصوصيّة والهويّة؟ لكن هل يمكن بلوغ ذلك ونحن اليوم أمام برامج تصادر الخصوصيّة والهويّة عن وعي أو من دون وعي، مقابل سيطرة الثّقافات الوافدة، وبخاصّة منها الأميركية، إذ إن أغلب البرامج التي تحدّثنا عنها هي نسخ عن لبرامج أميركية.
نبذة من البرنامجين
فكرة البرنامجين، رغم اختلاف تفاصيل التّنفيذ، تقوم على: جمع شباب من مختلف الدّول العربيّة داخل فضاء مغلق منعزل في غابة أو جزيرة قصد التّعارف تحت مسمّى البحث عن شريك الحياة والزّواج والتنافس على اللّقب للثّنائي الفائز. يتشابه المشتركون في النّقاط الآتية: محدوديّة التّعليم (لدى الأغلبية)، والعمل في مجال عرض الأزياء والتجارة والحلاقة والحياة المستقلّة بعيداً عن العائلة، والإقامة في تركيا والدّول الأوروبيّة. وأكثر من ذلك، تجمعهم استعداداتهم التّامة لـلإذعان التّام لأوامر الإدارة والمخرج على كل المستويات، من الملابس إلى كيفيّة التّصرّف في تصوير الحلقات وغيرها، ومن يحِد عن القاعدة يتمّ إقصاؤه. يعيش الجميع في داخل فضاء أشبه بـ”معسكر” مضبوط التّنظيم والقواعد والعقود التي تجعل المشترك تحت السّيطرة. وتختلف تفاصيل “السّيطرة” من برنامج إلى آخر. فقد فرض برنامج “الأسد الحقيقي” في حلقته الأولى على تسع فتيات النّزول إلى فضاء التّصوير كعارضات أزياء، حتى أن كاميرا المخرج في التقاطها للزّوايا تثبّت ذلك. ومن ثمّة تصطفّ الفتيات أمام ثلاثة فتيان يقوم كلّ واحد منهم بانتقاء ثلاث فتيات. طبعا لا يمكن لأيّ مشاهد سويّ ألاّ يستحضر سوق النّخاسة ومسلسلي “الحرملك” و “باب الحارة”، وهو يرى كيفيّة ” تسليع” الفتيات في عمليّة الانتقاء. أمّا نقطة الضّوء الوحيدة فكانت المشتركة الجزائريّة ماسليا، التي تمرّدت وانسحبت، بعد أن اكتشفت أنّ أسلوب تنفيذ البرنامج مهين لها كامرأة، وأعلنت ذلك عبر المنصّات الرّقميّة.
ويُعرض البرنامجان على منصّة يوتيوب من الإثنين إلى الجمعة في مدّة زمنيّة تتراوح ما بين السّاعة والنّصف والسّاعتين أحياناً. ويسبق البثّ نشاط ترويجيّ على بقيّة المنصّات الرّقميّة بنشر فيديوهات قصيرة و”تجييش” الجمهور لتخصيص جزء كبير من وقته للنشر حول هذه البرامج، فتنشط التعليقات، وتتحوّل المضامين إلى قضايا محوريّة، بل مركزيّة عامّة والشّباب في الفضاء الافتراضي العربيّ، وكأنّها تطرح قضايا وجوديّة.
المخفيّ في برامج الواقع على يوتيوب؟
تلهي هذه البرامج الشّباب عن واقعه وتعزله عن سياقه، فتنهي علاقته بمحيطه، ورويداً رويداً تصل به إلى مرحلة عدم الانتماء والتّخلّي التامّ عن هويّته، أو الأصح الانتماء إلى ثقافة الآخر. فإذا قمنا بتفكيك السّياق الذي تبثّ فيه هذه البرامج سننتبه حتماً إلى أنّها عُرضت وتُعرض في سياق عربيّ مأزوم. فبينما يبكي أطفال فلسطين ويقتلون على مرأى العالم وتُهدم البيوت، وبينما يبكي لبنان، ويهدّد الجوع والفقر العالم، بل وتهدد الطّبيعة الإنسانية بتقلّباتها المناخيّة المفاجئة والسّريعة وما تخلّفه من زلازل وحرائق، وبينما ينشغل جزء من شباب العالم بالابتكارات الرّقمية، ونعيش اليوم تحت سلطة الرّقمي والذكاء الاصطناعي، وبتنا نطرح مسألة الحروب الذّكية، في كلّ هذا السّياق العربي والعالمي المرعب، تتسمّر مجموعات من الشّباب أمام شاشات يوتيوب لساعات لمشاهدة شباب آخرين جعلوا من أهدافهم في الحياة منحصرة بالعلاقات العاطفيّة والزّواج وافتعال المشاكل في تفاصيل حياة يوميّة فارغة من أيّ اهتمام فكري. ومن ثمّة يتمّ إغراق الجمهور في انفعالاته، وتُنمّى هشاشته، ويُخدّر العقل تماماً. وهكذا يصبح الجمهور الشاب أو الشباب في داخل البرامج ضحايا منظومة تقوم على الهيمنة الثّقافية، بحسب بورديو، تحت مسمّى المثاقفة. وهنا يجب التنبيه إلى ضرورة التّفرقة بين المصطلحين: أمّا المثاقفة فهي النّدية في الحوار الثقافي بين الأنا والآخر، وأمّا الهيمنة الثّقافية فهي ذوبان الذّات وتحلّلها في داخل ثقافة الآخر.
كان من المفترض أن يكون هؤلاء الشّباب في داخل المؤسّسات الجامعيّة أو في المكتبات أو حاملين لمشروع أو منتجين لفكرة ما أو في أعمالهم، وليسوا وسط فراغ دائم، بل أصبح وقت الفراغ لهم ممارسةً يتقاضون عليها أجراً بحكم أنّهم يحصلون على مقابل مادّي أسبوعيّ. وأصبحت ممكنة برمجة العقل على أنّ المكافأة لا ترتبط بالعمل والاجتماع وانّما بإنتاج الفراغ والرّاحة والسّبات الطّويل، بل يمكن القول إنه بقدر ما يكون الشّاب بارعاً في زيادة أوقات فراغه وتخصيصها للبرنامج بقدر ما يضمن الشّهرة السّريعة والرّبح المضمون، بحسب منطق عمله. وكأنّها جهود خفيّة تعمل متضامنة من أجل تثبيت الفكر الاستهلاكي في العقل الباطني للشّاب العربي والاطمئنان إلى أنّه في حالة تخدير تامّة تجعله مستعدّا للاستعمار الفكري. إنّه شكل من أشكال الاختراق الثّقافي الذي يعبّر عنه في فلسفة بورديو بالهيمنة الثقافية والعنف الرّمزي.
برامج “العنف الرّمزي”
يعرّف بورديو العنف الرّمزي على أنّه عنف غير مرئيّ يمارس بطريقة ناعمة عبر التّواصل وتلقين المعارف. وبناء على هذا المفهوم يُمكن الإقرار بأنّ الوسائط الرّقميّة كيوتيوب أصبحت الأجهزة المستخدمة في ممارسة العنف الرّمزي عبر النّشر والتّرويج لثقافة البلدان الأكثر سلطة اقتصاديّا. ويعتبر الرّأسمال الاقتصادي وفق ما طرحه كارل ماركس، والذي يجعل من الصّراع طبقيّا بين البورجوازيّة والبروليتاريا هو المحدّد للثّقافة التي ستحظى بسلطة الانتشار والهيمنة على حساب ثقافة أخرى وفق ما طوّرها بورديو. ومن هناك نحن أمام برامج تعمل تدريجيّا على طمس الهويّة والخصوصيّة، بل وتسطيح مفهوم الهويّة بحدّ ذاته إلى درجة أنّه بعد سنوات من الآن قد يجد أحدنا نفسه مجرّد فرد يتموقع في داخل رقعة جغرافيّة تنتمي إلى جغرافيا تتبع المنطقة العربيّة، ولكنّ لا تربطه أيّ صلة بثقافة هذه الرّقعة التي ينتمي إليها، فيتّقن الإنكليزيّة على حساب اللّغة العربيّة، ويلبس من العلامات التّجاريّة الأجنبيّة، ويتلذّذ بالجبن السّائح من الهامبرغر والبيتزا والوجبات السّريعة من المطاعم الأجنبيّة، ويبيح لنفسه ممارسات هجينة على هويّته وغيرها من الممارسات.
يعمل جزء من شاشات التّلفزيون أو اليوتيوب على ردم كلّ ما له علاقة بالخصوصيّة الثّقافيّة لكل بلد عربي.
لو كان بورديو بيننا؟
لو كان بيار بورديو بينا لاشتغل على مفهومه “الهابيتوس” باعتباره ثلاثيّ الأبعاد متكوّناً من سلوكيّات الفرد وتمثّلاته للعالم وميولاته الجسديّة وثقافته وممارساته التي يتمّ إنتاجها وإعادة إنتاجها من خلال تفاعلاته مع واقعه ومجتمعه وعالمه. فـ”الهابيتوس” هو مجموع الاستعدادات والممارسات التي هي نتاج التّنشئة الاجتماعية ومكتسبة عبر التّجربة الفرديّة ومنتجة بدورها لممارسات جديدة. وهذا ما يؤكّد أنّه متغيّر. ولتغييره يجب أن نعود الى المؤسّسة التّربويّة، ولكن ليس فقط المؤسسّة التّعليميّة، ولكن المؤسّسة التربويّة التي تجمع الفضاء التعليمي والتكويني المدرسي والجامعي والفضاء الأسري ودوره في ذلك.
وبناء على الفكر النّقدي لبورديو حول العالم اللّيبرالي الجديد بمؤسّساته الشّرعية مثل المدرسة، والعلم، والصحافة، والدين، فإنّ هذه المؤسسّات بحاجة اليوم إلى العمل الجماعي على سياسة عموميّة شاملة قادرة على التّرويج لثقافة مضادّة من شأنها أن تكون عازلاً قويّاً بين الشّباب وما يتعرّض له من رسائل اتصاليّة وإعلامية عشوائيّة على المنصّات الرّقميّة… إنّها سلطة الرّأسمال الاقتصادي.
نعتقد أنه لو كان بيننا اليوم بيار بورديو لعاد وطوّر ما طرحه حول سوسيولوجيا التّربية وأدمج فيها دور العائلة الى جانب المؤسّسة التّربويّة.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار