| إسماعيل مروة
التأليف المجدي هو الذي يتركز في الإبداع والابتكار، وفي تصنيف نوع من الكتابة والتأليف الجديد الذي يضيف جديداً، وقد قرأت بمتعة وشغف كتاب (مانسيرة) للشاعر الإماراتي المعروف عادل خزام، ومن عنوانه اللافت يقدم تفسيراً في الصفحات الأولى بأنه يعني (سيرة الإنسان) فهو نوع من السيرة الإبداعية، فهو ليس سيرة ذاتية، وليس إبداعاً منفصلاً عن الإنسان، وليس رؤية فردية، ولم يخضع كل فصل منه لرؤية ما من مبدع، وليس كذلك ابن بيئة واحدة، وإنما هو مزيج من الإبداع والتأمل لمبدعين من مختلف أرجاء المعمورة، ومن ثقافات متعددة، وهذا ما يسوّغ صفحات الكتاب التي وضعت على غلافه (تأليف جماعي) و(أطلق الفكرة وجمع النصوص وواشجها وترجمها عادل خزام) فماذا عن هذا الكتاب؟ وماذا عن المحتوى؟
الفكرة وإطلاقها
التأليف الفردي إبداعي، لكنه يكون أكثر سهولة لأنه عمل فردي يرتبط بالمبدع والمؤلف، فهو حرّ في خياراته وكتاباته، ولكن التأليف الجماعي هو أشد صعوبة، وأكثر تعقيداً، لاختلاف الرؤى والمنطلقات والبيئات، ويكون التأليف الجماعي سهلاً عند وضع مختارات من أدب ما، أو من بلد ما، أو لتيار ما، أما عندما يضع المؤلف في ذهنه فكرة وجودية (سيرة الإنسان) ويبدأ البحث فيها فالأمر مختلف، خاصة أنه اختار الطريق الأكثر صعوبة ووعورة، فهو لم يلجأ إلى ما لديه من إبداع ليضعه، وإنما حدد الفكرة، وراسل مئة من الكتاب المبدعين في مختلف أرجاء العالم، اليساري واليميني، الأبيض والأسود والأصفر، ليطلب من كل واحد نصاً إبداعياً، وهذه الرحلة الشاقة شرحها المؤلف في المقدمة.
«ملحمة الإنسان المعاصر الذي يعيش القرن 21، إنسان التحولات الرقمية والتكنولوجيا الذي يرى العالم من أفق مختلف وهو يقرأ الماضي بأساطير شعوبه كافة، وينظر للحاضر المتأزم في صراعاته وتجاذباته وحروبه النووية الكارثية التي تهدد الأرض، ومع ذلك لا يزال يكتب عن الحب والخير والجمال،
الوعي في المنطلق يحدد قيمة هذه السيرة، والغايات المحددة تظهر المراد من هذه السيرة، وكتاب الحب والخير والجمال هم الغاية والمنطلق، والهدف الذي ترمي إليه نقل صورة هذا الواقع الذي يعيشه إنسان القرن 21 قياساً لما عاشه الإنسان في مراحله القديمة كافة والتي وصلتنا من خلال أساطيره، فهل يحتاج إنسان اليوم إلى ملحمة كما جلجامش لتسجل طبيعة حياته التي قد تتحول إلى أسطورة بعد انتهاء المرحلة؟ والصراع التكنولوجي والرقمي هل اجتاح كل شيء، وربما يغير القيم والمفاهيم، وبتنا بحاجة ماسة لكتابة أسطورة الإنسان في مواجهة الثورات الرقمية والتكنولوجيا والعلوم النووية وما بعدها؟ عصر التحولات هذا هل يغير كل شيء أم إن الإنسان سيبقى بقيم الحب والخير والجمال ليبدأ مرحلة جديدة ما بعد الرقمية، كما ما بعد طروادة وجلجامش؟ وهل تكون هذه (سيرة الإنسان) صرخة في ضمائر المبدعين للحفاظ على نقاء القيم وتحدي التقانة، ولو في صفحات تنتقل لتصبح فيما بعد أسطورة القرن 21؟
المنهج والمشاركون
الملحمة فكرة فردية، ولكنها ليست إنجازاً فردياً، وفي ذلك يقول الشاعر خزام، تم توجيه الدعوات لعدد مهم من شعراء العالم المعروفين من دون تحديد نطاق جغرافي بعينه، كان الهدف أن نصل إلى 100 شاعر من 100 دولة كنموذج لشعراء العالم، وكل الدول، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة على الإطلاق.
بدأ بعضهم بالاعتذار لأسباب مختلفة، وبدأ آخرون بطرح الأسئلة عن الكيفية التي ستتم بها كتابة الملحمة، وطلب آخرون قراءة ما كتبه غيرهم.. إلا أننا في النهاية استطعنا أن نجمع النصوص التي رحب الشعراء بالمشاركة بها، وكثيرون أثنوا على الفكرة، واعتبروها إنجازاً عالمياً يحدث للمرة الأولى بتاريخ الشعر العالمي.
إن ما اعتمده المؤلف الذي واشج بين النصوص ليصنع منها الملحمة شاق للغاية، فلو أنه اختار من المطبوع لكل شاعر من الشعراء كان الأمر هيناً، أو مراسلة الشعراء الأحياء وعلى جغرافية العالم يعرّض العمل لكثير من الإشكالات، وأذكر أن الأستاذ العالم أحمد عبيد رحمه الله بدأ مشروعه الأكثر أهمية (مشاهير شعراء العصر) في عشرينيات القرن العشرين، وأصدر منها قسماً واحداً هو قسم مصر، وتوقف المشروع، ولم ينجز قسم الشام والعراق بسبب أمزجة الشعراء، وأسئلتهم عن المشاركين والنصوص، واستعلاء بعضهم، واستنكافهم عن المشاركة مع آخرين لا يرونهم بمرتبتهم! فكيف حال المؤلف وهو يخاطب شعراء من مختلف أنحاء العالم؟ إضافة إلى أن فكرة الملحمة ستغيب فيها الأنا الشاعرة المتباهية عند دمج النصوص حسب عناوين الفصول؟
مغامرة بل مقامرة ما فعله الشاعر خزام، ويشكر على صبره في التعامل الذي لم يشأ أن يضع تفاصيله واكتفى بالإشارات. ويشير في مقدمته إلى أن عدداً من الشعراء أرسل أشعاراً حديثة تحاكي فكرة الملحمة، وبعض هؤلاء أرسل نصوصاً قديمة تحمل الروح التي طلبها..
والمنهج الذي اختاره المؤلف يهدف لإظهار روح العصر الحديث، وليعطي صورة عنه بكل تناقضاته، وليس المقصود إعطاء صورة عن الإبداع الشعري فيه، فذلك لا يتّسق مع فكرة الملحمية، وتناول الثورة الرقمية والتكنولوجية التي أشار إليها أولاً.
التبويب والملحمية
جاءت الملحمة في تقديم وخاتمة ووصايا ومآلات، وما بينهما وضع خمسة عشر فصلاً تبدأ مع بدء الخلق، وهي: أساطير البشر الأولى، دوران الإنسان في الجغرافيا والزمن، البشر هم مركز الكون، زوايا وعينا الأعمى، ممالك الصمت، نبوءة الفناء، نحن بشر رماديون، مجتمع القتلة الذرية، اللامتناهي ملكنا أيضاً، العيون سواء، 3,7 ملايين سنة من المشي على قدمين عربات قطار الزمن، مرايا الذات الغائبة، كل شيء في العالم قصيدة، غموض الحكمة وأفول اتساعها، جمهورية الانسجام العظيم، هذه هي الفصول وعناوينها لملحمة الإنسان في العصر الحديث، في القرن الحادي والعشرين، والفصول وما يتفرع عنها يشي بصعوبة تكوين ملحمة من شعراء كثيرين في الموضوع نفسه، وللغاية نفسها، وبالثوب الفني المناسب.
ودور المؤلف المهم يظهر من خلال استعراض الفصول وفروعها وعناوينها، إذ يلجأ إلى قصيدة كتبت بناء على طلب أو قصائد كتبت من قبل لشعراء اختاروها وأرسلوها، لاختيار جزء أو مقطع في مكان، والآخر يكون في مكان آخر، وقد اتبع لذلك طريقة رقمية تحيل إلى القص في مسرد الشعراء، مع بداية المقطع ونهايته، ويزداد الأمر صعوبة وتعقيداً باختلاف المدارس واللغات والمذاهب الشعرية، فمن قصائد سردية إلى فكرية إلى مباشرة، إلى شعر نثري مدور وهكذا، وفي ذلك يقول «كل هذه الأفكار التي تشرح أزمة الإنسان الداخلية، خاض فيها بعض الشعراء في الفصول الأولى من الملحمة، لكن النص يتطور لاحقاً للتعبير عن وجود الإنسان اليوم، ويطرح ويعبر عن أسئلته ومخاضاته الآتية… تحمل الملحمة شكلاً جديداً يتمثل في التنويع اللانهائي لأشكال وأساليب الكتابة الشعرية والسردية والقصص والشذرات والمقاطع القصيرة والفقرات التقريرية المباشرة، والإيحاءات الرمزية بما يجعلنا أمام تجربة مختلفة وجديدة كلياً في معمارها النصي والبلاغي، وهي في الوقت نفسه، تكشف قدرة اللغة اللانهائية على التعبير بأساليب حتى وإن كانت متضادة في شكلها، إلا أنها يمكن أن تندمج فنياً لتوليد نص جديد».
الملحمة والغايات الإنسانية
منطلق المؤلف الشاعر فهو مؤلف وشاعر قدير مشهود له في الوقت نفسه، منطلق إنساني محب، وغايته رسم صورة للواقع بغية العودة إلى الحالة الأولى من الحب والخير والجمال، لذلك يبدأ بإهداء معبر يومي بالغاية والدلالات والمنطلق «إلى الروح الإنسانية الخيرة، إلى القلوب التي تحلم بعالم أكثر عدلاً وجمالاً، إلى أطفال اليوم والغد، إلى العقل يسعى ليهتدي للمعاني السامية» فالمنطلق البحث عن الحب والغاية الوصول إلى المعاني السامية، بحث الشاعر عن صورة تعبر عما يراه من العالم، فوجد أن صورته وحدها لا تكفي، ففرد رؤيته إلى دول العالم ليصل إلى رؤية شاملة كما يراها الشعراء و المبدعون الذين يشاركونه الوقوف أمام معضلة الحياة التكنولوجية والانزياح عن الحب والخير والجمال والمعاني السامية.
رؤية واحدة وشعراء كثر
كما في الكتب المقدسة، في البدء كانت الكلمة، يبدأ بأساطير البشر الأولى:
في البدء كان العالم شيئاً واحداً
لا غرب لا شرق، لا وضوح ولا غموض
ولا البداية تعرف أن لها نهاية
ولا النهاية بدأت، أو صار لها مؤيدون
ولد الصمت سيداً
وصار لا يزعجه سوى ارتطام عناد الصخرتين
ولم يبق منها سوى الإنسان
السيد العبد التراب التاج الهباء الأرق
المنحل إذا هبت الريح وعوت ذئابها
المنفصم، لأنه خلق المرايا من أجله ولم يتركها نائمة
على سطح المياه
وهو المفكك كلمة كلمة
وهو أنت ولا أنت
سليل العبث في ألعاب الحب والحرب وشهوة الفناء
اليوم
يعبر الأطفال إشارة المرور فقط وهي حمراء
تدق صافرات الإنذار في الشوارع
حين يكتب شاعر قصيدة حب بالسكين لا بالقلم
ذات مرة كان هناك الفراغ العظيم
الذي نشأ منه الكون
ومنه استيقظت الحياة ونبت الإنسان
الكائن الذي استوطن الأسوار ونام في أمانها
الإنسان الذي تمرغ في روح الموسيقى ورقص وأصغى
قصة الإنسان التي كتبت
وها هي تعاد لتكتب ألف مرة ومرة..
وحين تصل الملحمة إلى دوران الإنسان في الجغرافيا والزمن نقرأ:
في أول الخلق فقط
كان كل الكون ملكاً للإنسان
أو على الأقل هكذا كان يظن
قبل أن ينسى الكلمة التي نطفتها خلقت من روحه
قبل أن ينسى ألوان الحب السبعة مثل السماوات السبع
قبل أن يحولها بدورانه حول ذاته إلى أبيض أبله يعمي العين والجسد..
كنا جوعى وسط الحشود وبلا خبز
والكوكب مستمر في الدوران
جموع من إفريقيا من أمريكا الجنوبية، من الشرق
أردنا أن نتعايش في سلام
كان الباب مغلقاً، ووجوه شرسة تكشر عن أنيابها وأسلحتها
ماتت جحافل كثيرة حتى تلون أفق الأرض بالأحمر
يا لها من بلدان غريبة
برابرة جامحون
لم يكن هناك ماهر سهل
لأن الإمبراطوريات أرادت الهيمنة على العالم
هناك حشود ضخمة من الناس المدفونين والمحرومين والمخنوقين
أطلقوا على بعضهم لقب أسود، هندي، مختلط، أصفر
وهناك الذين عوملوا كعبيد، وأبيدوا، شنقوا، وصلبوا
وكانت جريمتهم الوحيدة هي عرقهم المختلف، وأجسادهم القوية والجميلة.
وصية المآلات
أيها الإنسان الكل، أيها الإنسان الفرد، هل أنت أنا؟
رقصة الكون لا تهادن
تسري في الرياحين وجسدي
تشب في مقر الأرض وتلاقيها غيومي
تحررها من أسري ورعشاتي ودفقي
وهذه الوصية في المآلات تعطي صورة لما على الإنسان أن يكون، فعبارات نهاية الملحمة، أو مقطع الخاتمة يشي بكل ما يريد أن يقول:
امزحي أيتها النفس واكتملي
الضياء على الأبواب والسراج أبدي..
الرؤية الفنية
درجت العادة أن تزين الكتب بلوحات فنية لاصدقاء أو فنانين مشهورين، و(ما نسيرة) لعادل خزام أخذ طريقة أخرى أكمل فيها ملحمته، فكما خاطب الشعراء، خاطب الفنانين، وطلب منهم لوحات خاصة لكتاب الملحمة، وركز على أنها لوحات يعتزون بها، وكانت بالأبيض والأسود، فجاءت الملحمة بشعرها ولوحاتها مخلصة لفكرة واحدة «أسعدنا أن الكثير منهم رحبوا بالفكرة على الفور وأرسلوا لنا صوراً من أعمالهم الفنية التي يعتزون بها، وإمعاناً في إضفاء الشاعرية على مشاركة الفنانين طلبنا منهم الإسهام بصور لوحات بالأبيض والأسود لأعمال يعتزون بها في تاريخهم الفني».
كل ما في الملحمة الشعرية الإنسانية الكبرى للقرن 21 (ما نسيرة) كان لأجل الفكرة التي أطلقها المؤلف، وجهده أكثر صعوبة من تأليف كتاب فردي إبداعي له وهو الشاعر، واكتمل الكتاب بإخراج فني مميز لدار التكوين في دمشق والشارقة التي قدمت الكتاب في أبهى حلة فنية وإخراجية.
سيرياهوم نيوز١_سانا