آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » تجدد كي لا تتبدد!

تجدد كي لا تتبدد!

| د. بسام أبو عبد الله

هناك مقولة معروفة أن «من لا يتجدد يتبدد»، وهذا يشمل كل البشر بما فيهم نحن هنا في هذه البلاد الصامدة، لكن من لم يفهم هذه المقولة بعد هم الغربيون الذين يهيمنون على نظام العلاقات الدولية، والتوازنات في العالم منذ ثلاثة قرون على الأقل، لا بل إنهم من خلال النظام الاستعماري الذي حكموا به مساحات واسعة، وشعوب مختلفة، استطاعوا أن ينهبوا ثروات العالم ليبنوا ثروتهم ومكانتهم، وعودة سريعة للتاريخ تُرينا أن الدانماركيين والهولنديين والبرتغاليين، والاسكتلنديين، والإسبان، والسويديين، والطليان، وبالطبع الفرنسيون، والانكليز، والأميركيون، هم قوى استعمارية هيمنت وسيطرت على بقاع جغرافية في مراحل زمنية مختلفة، وهؤلاء حالياً يشكلون بنية حلف «الناتو» الذراع العسكرية للولايات المتحدة الأميركية.

الذي يجمع هذه القوى والدول هو ماض استعماري، وعقلية مشتركة تنظر للآخرين من زاوية واحدة، أي إن على شعوب العالم أن تتطبع بطباعنا، وعاداتنا، ونمط تفكيرنا، وشكل النظام السياسي، وديمقراطية على مقاسنا، أي ما يحقق مصالحنا فقط، وليس مصالح الشعوب والدول المستهدفة، فإذا فرضنا كغربيين المثلية الجنسية فعلى العالم أن يسير خلفنا، ويقونن ذلك، ويحترمه ولو كان ذلك خلاف الطبيعة الإنسانية، والأديان والمعتقدات، وإذا تحدثنا عن حرية المرأة، ومكانتها فيجب على الجميع أن ينصاع لمعاييرنا، وقيمنا، ولو تحولت المرأة من الأم العظيمة إلى سلعة تجارية رخيصة، أو ديكور شكلي، أو واجهة مصطنعة للتعبير عن انفتاح المجتمع دون الأخذ بالحسبان خصوصية المجتمعات، والشعوب والدول، وفي الوقت نفسه يريد الغربيون منا أن نكون نسخة عنهم في شكل النظام السياسي، والدستوري، وإذا لم نفعل كما يريدون فنحن ديكتاتوريون واستبداديون حتى لو كان النظام السياسي يحقق مصالح الغالبية اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، لأن المطلوب ليس مصالح هؤلاء بل إن يشكل النظام السياسي جسراً لعبور مصالح شركاتهم، وهيمنتهم في مناحي الحياة كافة.

نماذج عديدة تثبت صحة ما نقول، فالغرب يقبل أنماط حكم تعود للقرون الوسطى، ما دامت مصالحه ميسرة وتتحقق، لكنه يسمي النظام السياسي في الصين مثلاً بأنه استبدادي، على الرغم من أن ما تحقق للصينيين في ظل حكم الحزب الشيوعي الصيني خلال أربعين عاماً، احتاج الأوروبيون إلى مئات السنين لتحقيقه، وما حققه الروس في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فإنهم كانوا سيحتاجون إلى عقود أخرى لو استمر الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، فـيلتسين وقبله الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف كانا يحظيان بدلال غربي، بينما بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ هما ديكتاتوريان وفقاً للتقييم الغربي، والأهم من ذلك أن الغرب لطالما صَدَعَ رؤوسنا بحرية التعبير، واحترام الملكية الخاصة لا بل تقديسها، نجده اليوم في الحالة الروسية قد عاد إلى عقلية القرصنة والسطو، وليس في حالة روسيا فقط، بل هو يسطو أيضاً على أملاك إيران، وسفن النفط، ويجمد ممتلكاتها العامة، والخاصة، وفي الحالة السورية يحاصر شعباً بأكمله، ويعمل على قطع الأوكسجين إن استطاع، هي الوسائل والأدوات نفسها القديمة الجديدة، السطو، الاحتلال، السرقة، والنهب المنظم عبر منظوماته المالية وبنوكه، وأذرعه الناعمة والخشنة.

أما حرية التعبير فقد سقطت سقوطاً مريعاً، إذ لم يعد مسموحاً لأحد أن يفتح فمه ضد المقاربات الغربية تجاه سورية وروسيا وإيران وفنزويلا وغيرها من البلدان، بل المطلوب الثناء على العقوبات، وتصوير بوتين على أنه أدولف هتلر، يريد ابتلاع أوروبا والعالم، ووُصِفَ الرئيس بشار الأسد بأوصاف مخجلة، وقائد الثورة الإيرانية على الخامنئي مثلاً بأوصاف مخجلة تحت عنوان حرية التعبير، أي إن هؤلاء يدعون حرية مزعومة في التعبير بما يتفق ومصالحهم فقط، وقد يقول قائل إن الأمر لا يقتصر على الغربيين، فالدول هكذا تتصرف عبر التاريخ!

هذا صحيح لو لم يتبجح هؤلاء وينظّرون على الآخرين بقيم لا يحترمونها، حيث سقطت أمام أعيننا دون أن يرف لهم جفن، الأمر باختصار أن الغربيين لم يتجددوا، ومازالوا يعيشون على أمجاد الماضي معتقدين أن العالم لم يتغير، وأن الشعوب ووعيها لم يتغير، وأن بإمكانهم أن يقنعوا بالكذب والتضليل وكي الوعي، وكأنهم وحدهم في هذا العالم وعلينا جميعاً تدمير تاريخنا ونسيانه، وإرثنا الحضاري، وعاداتنا وتقاليدنا، ومعتقداتنا الدينية، لا بل تغيير الكتب المقدسة وكتابة تاريخ جديد.

قد يبدو هذا الكلام مثيراً للكثيرين الذين سيقولون إن الغرب متفوق ومتقدم، وإنه احتضن ملايين المهاجرين وعلمهم وأمن لهم فرص عمل، فلماذا كلما دق الكوز بالجرة تهاجمون الغرب ودوله، وكأن لديكم «غرب فوبيا» أي «عقدة الغرب»؟ أجيب هؤلاء أنني لست من الذين لديهم «عقدة الغرب» فقد زرت دوله وجامعاته، وعشت فيه، ولدي أصدقاء كثر، لكني أقول بوضوح شديد إن الغرب لم يستقبل اللاجئين لأنه إنساني، بل لأن لديه عجزاً ديمغرافياً، ويحتاج لليد العاملة، ومن يقرأ المعطيات السكانية فسيفهم عن ماذا أتحدث، ومن ناحية أخرى فإن الدول الغربية لا يهمها كثيراً تلك الأجيال التي تشربت قيم مجتمعاتها، لأنها ستواجه صراع الهوية والقيم عاجلاً أم آجلاً، ما يهمهم الغرب الأطفال الصغار، الذين سيُصنعون في مدارسهم وجامعاتهم، وسيجد الآباء والأمهات أبناءهم يتشربون قيماً أخرى اجتماعية وثقافية من دون أن يستطيعوا تغيير شيء على الإطلاق، هنا مكمن الفرس.

وإذا كان صراع الهوية والقيم، والبعد الاجتماعي أحد أبرز أشكال الصراعات المعاصرة، فإن السؤال الأبرز هو هل المطلوب من الغرب فقط أن يتجدد، وماذا عنا نحن؟ هل نحن بأحسن حال؟ هل يجوز أن نستمر بهذا الحال؟ أين نقاط ضعفنا؟

الحقيقة أنه كلما تناولت موضوعاً ناقداً للعقلية الغربية، عقلية الهيمنة، والتوسع، تأتيني ردود أفعال عديدة، بعضها منطقي، وبعضها الآخر يستهزئ ويسخر، ويحطم الذات دون وعي، وكي أكون واضحاً فيما عرضته أعلاه أفضل دائماً أن أثبت أفكاري بنقاط منهجية:

1- إن انتقاد الغرب لا يأتي من باب العقدة أبداً، وإنما من باب تعرية الدعاية الغربية التي كثيراً ما خدعتنا، وضللتنا لعقود من الزمن، فالغرب حضارته مادية- تكنولوجية، أما الجانبان الأخلاقي والروحي فلا وجود لهما عنده.

2- إن مجتمعاتنا بحاجة للتجدد كغيرها، والتجدد لا يعني أبداً استبدالاً للأسماء والشخصيات بقدر ما هو عملية شاقة يومية مع النفس، والمجتمع بهدف تطوير طرق العمل، ومناهج التفكير، والقوانين، والأنظمة وغيره الكثير.

3- مجتمعاتنا ليست بهذا السوء فلو حاصرنا الدول الأوروبية، والغربية بالطرق الوحشية التي يحاصروننا بها، ويمنعون عنا سبل العيش والحياة، لوجدنا أنفسنا شعباً أسطورياً بالقدرة على التحمل، بينما هم لم يتحملوا شهرين حتى بدؤوا يهتزون ويصرخون، على الرغم من قوة اقتصادهم، فكيف إذا أضفنا لذلك آلاف الإرهابيين، والتمويل بالمليارات والإعلام وغيره؟ اسألوا أنفسكم ستجدون الجواب!

4- إن القدرة على التجدد هي حاجة حياتية ومجتمعية، وشعوبنا كما أشرت لديها طاقات روحية، وعادات وتقاليد متجذرة، ومجتمعاتنا حية، ومتسامحة، لكن الحاجة للمزج بين الأصالة والمعاصرة هي جوهر عملية التجديد والتجدد، إذ ليس المطلوب نسف الماضي وكل ما لدينا، والأخذ بما لدى الآخرين وتكراره كالببغاوات، وإنما أخذ أفضل ما لدى الغرب والشرق، وإعطاؤه خصوصية محلية، هنا يكمن الإبداع، وتجربة الصينيين نموذج للدراسة والقراءة، وتجربة الغرب كذلك، لكن منظومة القص واللصق لا تصلح دائماً.

5- إن الظروف التي نمر بها هي استثنائية، وغاية في الصعوبة، لكنني أشدد دائماً على الحاجة للإبداع فيما هو متاح، ولو كانت نسبته 30 بالمئة أو أقل هذا جانب، لكن الجانب الآخر دعونا نقرؤه بعناية: لماذا ستواجه 6 ملايين عائلة بريطانية انقطاعاً في الكهرباء خلال الشتاء القادم، ولماذا أميركا الدولة العظمى التي تريد أن تعلمنا كيف نمشي لا تجد حليباً لأطفالها، هل يصدق أحد هذا الأمر؟

«تجدد كي لا تتبدد» مقولة لنا قبل غيرنا، لكن أرجوكم لا تقارنوا بين من يقاتل على بقائه وهو محاصر، وبين أي أحد آخر، فأي مقارنة علمية يجب أن تكون بين أطراف تمتلك الشروط والظروف نفسها، كي تكون موضوعية.

أما الغرب فإن التجديد، والتجدد لديه يجب أن يبدأ من أن العالم تغير- فعلاً تغير، وما لم يدركوا ذلك ويفهموا أن العالم ليس لهم وحدهم، فإنهم سوف يتبددون حكماً، والتغيير في العقلية هو المطلوب، دعوكم من أولئك الذين يجلسون كمرتزقة في الخارج ليتصيدوا ما نقوله، وما نكتبه، هؤلاء ليسوا في الحساب أبداً، ما هو في الحساب مصالح بلدنا وشعبنا.

سيرياهوم نيوز3 – الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...