|وليد شرارة
التصعيد الأميركي ضدّ الصين، والذي عبّرت عنه تصريحات جو بايدن حول تايوان، لا يرتبط فقط باستراتيجية الاحتواء المعتمَدة من قِبَل إدارته بحقّها في جوارها الآسيوي. المطروح ليس مجرّد محاصرة نموّ النفوذ الصيني الاقتصادي والسياسي والعسكري في آسيا وفي مناطق العالم الأخرى؛ فالمنافسة معها لا تقتصر على هذه الميادين، بل تتعدّاها إلى الميدان التكنولوجي، حيث نجحت بكين في تحقيق تقدُّم هائل في قدراتها. لقد أشار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى هذا البُعد بوضوح في خطابه في جامعة جورجتاون في 28 أيار الماضي، عندما قال إن «الصين أصبحت مختلفة عمّا كانت عليه قبل 50 عاماً، حينما كانت معزولة وتكافح الفقر والجوع. هي أصبحت اليوم قوّة عالمية ذات نفوذ وتأثير وطموح، وموطناً لكبرى شركات التكنولوجيا، وتسعى إلى السيطرة على تقنيات المستقبل وصناعات المستقبل وتحديث جيشها لتصبح قوّة قتالية من الدرجة الأولى». ونبّه بلينكن إلى خطورة تراجع الولايات المتحدة إلى المرتبة التاسعة عالمياً في مقدار الإنفاق على البحث والتطوير التكنولوجي، بينما باتت الصين تحتلّ المرتبة الثانية، داعياً إلى استثمار مكثّف في هذا المضمار، وإلى تعزيز التعاون مع الحلفاء للتصدّي لهذا «التهديد الاستراتيجي».
سبق لدونالد ترامب أن أطلق تحذيرات مشابهة ردّاً على مشروع «صُنع في الصين 2025» الذي أعلنت عنه الحكومة الصينية منذ أيار 2015، والهادف إلى تأمين شروط ريادة بلادها في مجالات تكنولوجيا المستقبل، كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية والتكنولوجيا الإحيائية. غير أن نجاح الصين في إطلاق صاروخ فرط صوتي في مدار الأرض، اخترق القطب الجنوبي، في تشرين الأول الماضي، هو الذي مثّل صدمة حقيقية لصنّاع القرار في واشنطن، حدت بالعديد من المعلّقين الغربيين إلى مقارنة هذه العملية، وما ستؤسّس له من ديناميات عسكرية وتكنولوجية، بتمكّن الاتحاد السوفياتي من إطلاق أوّل صاروخ إلى الفضاء، هو صاروخ «سبوتنيك»، في 4 تشرين الأول 1957.
التحالفات التي نسجتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كانت من بين أبرز مرتكزات هيمنتها الكونية، إضافة طبعاً إلى تفوّقها العسكري النوعي. قيادة جبهة ضدّ «قوى الشر» العالمية، كالشيوعية خلال الحرب الباردة، أو «الإرهاب» بعد عمليات 11 أيلول 2001، أتاحت لها إلزام الدول والقوى السياسية المذعورة من «التهديد»، بأجندتها الاستراتيجية العامة، وترسيخ سيطرتها على بقاع مختلفة من المعمورة. بهذا المعنى، هي وظّفت وجود «عدو»، لجأت إلى تضخيم خطره على مصالحها ومصالح حلفائها، للحفاظ على هيمنتها وتوسيعها. هي تتبع الاستراتيجية نفسها حالياً، في مقابل ما تسمّيه «التهديد الصيني». وبما أن التنافس على الريادة في حقل التكنولوجيا يحتلّ حيّزاً أساسياً في مجابهتها الكبرى مع بكين، هي تسعى إلى دفع حلفائها نحو «فسخ الشراكة» مع الأخيرة في هذا الحقل، بذريعة أن تَقدّم الصين المتعاظم فيه سيعني هيمنتها على الكوكب، ونهاية للنظام الدولي الليبرالي. وهي لا تتردّد لتحقيق هذا الهدف، في استفزاز الصين عبر تجاوز خطوطها الحمراء، كما فعلت أخيراً في موضوع تايوان، لإثارة توتر عالي الحدّة معها، يفضي إلى المزيد من الاستقطاب.
ما ترمي إليه واشنطن ببساطة هو إنشاء جبهة مع الحلفاء لوقف التقدُّم الصيني في الميدان التكنولوجي
الاستقطاب الدولي بات غاية بذاته بالنسبة لواشنطن. تقرير هامّ نُشر على موقع «معهد بروكغنز» بعنوان «الصين العالمية: تقييم الدور المتنامي للصين عالمياً»، وتضمّن مقابلات مع 10 من الباحثين في المعهد، عكَس المقاربة الأميركية لهذه القضية. أبرز النقاط الواردة فيه، وفقاً للتلخيص المُقدَّم في بدايته هي التالية:
– الحفاظ على التوازن الهشّ الراهن في ميدان المنافسة التكنولوجية غير ممكن أو مجدٍ، والمطلوب هو إجراءات حازمة لتأمين مآلات أفضل في هذا الميدان.
– من أبرز الميزات التفاضلية التي تتمتّع بها الولايات المتحدة هي قدرتها على بلورة مقاربات ائتلافية لتسريع التطوّر التكنولوجي.
– الاستثمار الصيني في ميدان التكنولوجيا يستند إلى وضوح في الأهداف، وبينها تعزيز السيطرة على المجتمع، وتوسيع النفوذ الدولي، وتعظيم القدرات العسكرية. ليس للولايات المتحدة هذا المستوى من الوضوح بالنسبة لأولوياتها التكنولوجية. لا بدّ من تعاونها مع شركائها لتحديد السبل التي تسمح باستخدام التكنولوجيا للدفاع عن القيم المشتركة، وعن القواعد والأعراف الدولية.
ما ترمي إليه واشنطن ببساطة هو إنشاء جبهة مع الحلفاء لوقف التقدُّم الصيني في الميدان التكنولوجي، وتوحيد الجهود والقدرات للحفاظ على التفوّق النوعي الغربي فيه.
تحتلّ أشباه الموصلات موقعاً مركزياً في مجمل الصناعات التكنولوجية المتطوّرة، من صناعة السيارات، مروراً بالمعلوماتية والهواتف الذكية، وصولاً إلى صناعات الدفاع. وتُقدَّر قيمة هذه السوق حالياً بـ600 مليار دولار. وبحسب ماتيو دوشاتيل، مدير برنامج آسيا في «معهد مونتنيي» الفرنسي، فإن «أبرز أقطاب إنتاج أشباه الموصلات هم الولايات المتحدة والصين وأوروبا وكوريا الجنوبية وتايوان واليابان. غالبية الشركات التي تتولّى تصميمها هي أميركية (برودكوم، كوالكوم، نيفيدا، آبل)، وتلك التي تقوم بصناعتها هي آسيوية (تي أس أم سي، سامسونغ، سميك) مقرّها تايوان وكوريا الجنوبية… نلحظ حالياً توجُّهاً لدى الحكومات لدعم الصناعة الوطنية للحدّ من التبعية المتبادلة. اتّفق ترامب مع شركة تي أس أم سي التايوانية لبناء مصنع لأشباه الموصلات في أريزونا، وطالب بايدن الكونغرس بالمصادقة على ميزانية 50 مليار دولار لدعم هذه الصناعة. لكن الأهمّ هو موقف الدول والشركات من الصين. هي حتى الآن في موقع الخاسر في المنافسة لأنها لم تستطع اللحاق بالتطور التكنولوجي في هذا المجال للولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وتايوان، والأخيرة متحالفة للحفاظ على تقدّمها لجيلَين أو أكثر في هذا المجال عليها».