| عبد المنعم علي عيسى
منذ أن حدثت المصالحة الروسية التركية شهر آب 2016، سعى الرئيس التركي إلى استمالة الروس بعيد أن أصبحوا على حدوده الجنوبية في سورية كحكم خارج عن سياقات الجغرافيا التي وضعت بلاده على جوارها معهم في الشمال، من دون أن يعني أن ذلك الدافع هو الوحيد الذي قاد نحو ذلك الفعل، فالمرامي هنا كانت تطول العودة إلى حلم الأجداد يوم أقروا «الميثاق المللي» عام 1920، وفي تعريف هذا الأخير يمكن القول إنه وثيقة ترسم الحدود الجديدة لتركيا ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتلك الحدود، التي يجب أن تخاض الحروب لتحقيقها، وأهم بنودها أن «المناطق التي تسكنها أغلبيات تركية تعتبر وطناً للأمة التركية» وفي «التحديث» الذي جاءت به «الأردوغانية» تتعدل الصيغة بحيث تلي كلمة «أغلبيات» عبارة «وكذا أقليات» لكي يتطابق ذلك مع واقع الجغرافيا السورية، والعراقية، المستهدفتين، وفي الغضون كانت المصالحة قد فرضت تقديم «العربون» تلو الآخر تعبيراً عن «الصداقة» من نوع استضافة منظومة «إس 400» الروسية على الأراضي التركية بكل ما يمثله الفعل من استفزاز للغرب و«الناتو» الذي قرأ الفعل على أنه نخر يصيب أنسجته التي كانت في جزء منها قد تمزقت بفعل سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ثم تتالت طبعات أخرى من «العربون» من نوع خط «ترك ستريم» وأخرى ذات طبيعة أقل أهمية من «العربونين» سابقي الذكر.
لم يكد يمر أسبوعان على المصالحة الروسية التركية آنفة الذكر، حتى أعلنت أنقرة عن شن عملية عسكرية أطلقت عليها اسم «درع الفرات» يوم 24 آب 2016، حيث اختيار التوقيت كان ذا دلالة واضحة ففي مثل هذا اليوم، قبيل خمسمئة عام، جرت معركة «مرج دابق» التي كان من نتيجتها وقوع سورية، وعموم المنطقة العربية في غضون مدة لا تزيد على الأعوام العشرة عن وقوع الأولى، تحت الاحتلال التركي، وبنتيجة «درع الفرات» بسطت القوات التركية سيطرتها على الباب وجرابلس ودابق أيضاً هذه المرة، وبعد مرور 17 شهرا على هذه الأخيرة شنت تركيا عملية ثانية أطلقت عليها اسم «غصن الزيتون» التي أوقعت مناطق عفرين وجنديرس وراجو تحت السيطرة التركية أيضا، ثم بعد 19 شهر على العملية الأخيرة أعلنت أنقرة من جديد عن عملية عسكرية سمتها «نبع السلام» التي شملت المنطقة الممتدة ما بين تل أبيض بريف الرقة الشمالي ورأس العين بريف الحسكة الشمالي أيضا، فيما العملية الرابعة جاءت بعد أربعة أشهر وأطلق عليها اسم «درع الربيع» التي قادت إلى اتفاق روسي تركي كان من بين بنوده الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة في مناطق عدة من أبرزها تلك الواقعة بين منطقة طرمبة ومنطقة الحور الواقعتين على طريق أم 4، كوسيلة لفتح هذا الطريق الذي يمثل شرياناً مهماً للاقتصاد السوري.
في غضون السياقات السابقة كان هم أردوغان الأوحد، والذي ما انفك يحمله في حله وترحاله، هو «المنطقة الآمنة» التي تمتد على طول الحدود السورية التركية وبعمق يصل إلى 30 كم داخل الأراضي السورية، والفعل في عمقه كان يمثل ترجمة ميدانية لـ«الميثاق المللي» آنف الذكر، كان ذلك الهم كثيراً ما يظهر بقوة عندما تلوح في الأفق بوادر احتياج أميركي، وأحياناً روسي، لأنقرة، ثم يعود ليخبو تارة أخرى خصوصاً عندما تحدث تلاقيات واسعة ما بين موسكو وواشنطن في سورية على نحو ما حصل في الفترة الممتدة ما بين آذار 2020 وآذار 2021، فيما كانت التباشير التي حملها صيف وخريف هذا العام الأخير تقول إن «عام العسل» يمضي إلى خواتيمه شتاء وربيع عام 2022.
في أعقاب اجتماع للحكومة التركية جرى يوم 23 أيار الماضي، أدلى أردوغان بتصريح قال فيه: إن «تركيا بدأت بإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كم على طول الحدود الجنوبية» ثم أضاف: إن «القوات المسلحة ما أن تنهي استعداداتها حتى تبدأ تلك العملية»، محركاً بذلك هدوءاً نسبياً عاشته المنطقة منذ آذار 2020، وإن كان تعبير «إنهاء الاستعداد» الذي أشار إليه يعني أن ثمة عوائق، دولية بالدرجة الأولى، لا تزال بلا حل، وما يؤكد ذلك هو ما ذهب إليه «مجلس الأمن القومي التركي» الذي انعقد بعد ثلاثة أيام على تصريح أردوغان، والذي ذهب إلى نقل التصريحات إلى مرحلة إقرار العملية العسكرية لكن من دون تحديد موعد لها، وعدم التحديد هنا يعني أن الفعل قد يتم وقد لا يتم تبعاً لرجحان كفة الموانع والمحفزات واحدة على الأخرى.
في المحفزات يبدو أردوغان موقنا بأن ملفي «اللاجئين السوريين» و«المنطقة الآمنة» يمثلان رافعة لا غنى عنها لاستقرار حكمه وصولاً إلى فوزه في انتخابات حزيران من العام المقبل، حيث تشير المعطيات الراهنة، وأبرزها الوضع الاقتصادي المأزوم الذي قوّى من شكيمة المعارضة، إلى أن أردوغان يواجه تهديداً للمرة الأولى منذ نحو عقدين بإمكان هزيمته في تلك الانتخابات، ولذا فإن فعلاً من نوع «خلط الأوراق» يبدو لازماً لتغيير المشهد، وفي الموانع تبدو المواقف الدولية، الروسية والأميركية على وجه التحديد، في طور «عجيني» بمعنى أنه لم يبلغ مرحلة التصلب بعد، فالاتصال الذي أجراه أردوغان مع الرئيس الروسي 30 أيار الماضي لم يكن حاسما لجهة تحديد موقف نهائي، وما جرى فيه استدعى تتمات مما يستدل عليه من الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الروسي إلى أنقرة التي يفترض فيها أن تجلو ذلك الموقف، وفي القراءة تبدو موسكو غير راغبة في حدوث هزات كبرى في سورية بالتزامن مع انشغالها في أوكرانيا، ثم لا مصلحة لها في تغيير يحصل على خرائط السيطرة وهي في وضع لا يسمح لها بأن تكون لها اليد العليا فيه، لكن من جهة ثانية يبدو «الاحتياج» الروسي لدور تركي أكثر «انكفائية» عن الغرب المحموم بتدمير روسيا وإعادتها قرونا إلى الوراء أمراً ضاغطاً على غرف صناعة القرار السياسي الروسي، بدوره جاء الموقف الأميركي أكثر ضبابية من نظيره الروسي، فالتحذير الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركي في 1 حزيران من أن «أي هجوم عسكري في سورية سيقوض الاستقرار الإقليمي» لا يمكن تصنيفه سوى في خانة «الدبلوماسية المرنة» التي تتحين الحصول على مكاسب أو تنازلات قبيل إعطاء الضوء الأخضر المأمول، وفي ذاك تأمل واشنطن أن منح الضوء لأنقرة، ودخول القوات التركية إلى مناطق منبج وتل رفعت وعين العرب وعين عيسى سيؤدي تلقائياً إلى تفسخ مسارات سوتشي وأستانا على حد سواء.
بالمقارنة بين كفتي الموانع، التي تتخذ وضعاً «جيلياً» حتى الآن، وبين المحفزات، يمكن الجزم بأرجحية كفة الأخيرة على الأولى.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن