كمال خلف
“كراكوز وعواظ” اشهر شخصيتين في عالم مسرح الظل منذ القدم، كانتا ترويان الحكايا والنوادر عبر حوار شيق بينهما، ويجلس الناس في المقاهي في الزمن الماضي للتفرج والتسلية. تقول الروايات ان الشخصيتين كانتا شخصيات حقيقة من لحم ودم في زمن السلطان “سليم الأول” وكانا يملأن مجلسه بالبهجة والسرور كلما اجتمعت الحاشية للتسلية والترفيه، الا ان السلطان امر بإعدامهما بعدما قدما عرضا امام زوجة السلطان وضيفاتها من نساء القصر، كان يحتوي الفاظا نابيه وخادشة للحياء.
وبعد مدة من موت الثنائي المرح شعر السلطان والحاشية بحاجة اليهما لما تركاه من فراغ، فوجد احد الوزراء فكرة تجسيدهما من خلال صناعة نفس اشكالهما من جلود الحيوانات وتحريكها بالأيدي على مسرح مع تقليد الحوار والحكايا والأداء وحتى الأصوات.
وهكذآ كان ظل” كركوز وعواظ” تقليدا للشخصيات الحقيقة، مع استمرار الحكايا والنوادر وحتى الالفاظ النابية واللغة الهابطة، “كأن في عالم ذاك الزمان لم يكن ثمة شخصيات جديدة او أسلوب جديد او ابداع مختلف او ابتكار خلاق يحقق الغاية المطلوبة”.
نورد هذه القصة من التراث، لانها تبدو متشابهة مع واقع تعايشه امتنا اليوم، فعندما تنتفض الامة على واقعها الرديء محاولة التغيير والتخلص من الماضي الأسود، وإذ بها تعود اليه بصورة اكثر سوداوية، وعندما تستبدل “كركوز وعواظ السياسية والحكم باشباههم بصورة مشوهة من جلود مصنعة تحركها الايدي الخارجية كالدمى في مسرح الظل. وعندما تستنسخ قوى التغيير في عالمنا العربي خطاب قوى السلطة، وتحاول ان تلعب ذات أدوار الأنظمة بشكل اسوء.
وإذ جثت الأنظمة العربية ردحا من الزمن على ركبتيها للقوى الغربية المتسلطة والظالمة، فان قوى التغيير العربية انبطحت، وإذ نفذت الأنظمة أوامر سادة البيت الأبيض، فان قوى التغيير نزلت الى مرتبة المنفذ لرغبات السفارات وعناصر من الدرجة العاشرة في أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية.
وإذ اشتهرت الأنظمة العربية بالفساد الذي احرق البلاد، فان اول ما قامت به قوى التغيير العربية هو تعلم هذه الحرفة واتقانها.
وإذ حاربت الأنظمة العربية حرية الفكر والتعبير وقمعت الراي الاخر، فان قوى التغيير جرمت الاخر كليا، واعتبرت كل مخالف لها او معارض لنهجها من بقايا الأنظمة السابقة او البائدة، وإذ ناصبت الأنظمة العربية حركات المقاومة في بلادنا العداء سرا، ورفعت راية فلسطين جهرا. فان قوى التغيير شطبت المقاومة وأهلها سرا وجهرا، وتعاملت مع قضية فلسطين باعتبارها قضية من قارة بعيدة، حفاظا على مكاسبها السلطوية الجديدة ولضمان دعم القوى الغربية الراعية لكل عملية تغيير في العالم العربي منذ مئة عام.
هكذا أيها السادة وقبل ان ندفن “كركوز وعواظ” نكون مضطرين كشعوب وأمة ان نجلس اليوم لنتفرج على خيالتهم تعيش وتتحرك وتسرد الحكايا على مسرح الظل الأسود الممتد من المحيط الى الخليج.
حلم التغيير والانتقال من الواقع العربي الرديء والمتخلف والخاضع والعاجز هو حلم أجيال عربية، عاشت قرن من الزمن تسعى للحاق بركب الحضارة، تحلم بدول محترمة تحفظ لها كراماتها وحقوقها، دول تملك قرارها المستقل النابع من مصلحة أبنائها ومصالحها العليا. فقد ذاق أبناء هذه الامة مرارة الذل والانكسارات، وارتهان أنظمتها للدول الكبرى التي استسهلت الدعس على كرامة الشعوب العربية، وجر اتباعها من الحكام والنخب لتحقيق مصالحها هي على حساب مصالح الامة وحتى مصلحة الدولة القطرية الواحدة.
انه الحلم المنقذ من كوابيس الانحطاط والجهل. هكذا كان ما يسمى “الربيع العربي” قبل اكثر من عشر سنوات فرصة وجدت فيها الشعوب الخلاص. حينها انطلق الوجدان العربي نحو الضوء وتحركت المياه الراكدة. ولكن ويالها من خيبة. وباختصار هكذا كان المشهد :
فتح ثوار ليببا اكفهم للدعاء لربهم حلف الناتو ليقود التغيير، وبعدها تركهم يتقاتلون فيما بينهم ملل ونحل ومناطق وقبائل. ركب التغييريون السلطة واستقوى ببعضهم على بعض بالقوى الخارجية، انتشر الفساد، وفقد الامن، وانفلت السلاح، وتغولت الميليشيات، وانهار الاقتصاد، وتكالبت النخبة على السلطة وجاع الناس.
حركة التغيير في سورية كانت اسوء حالا واظلم مآلا. فلم يبق جهاز استخبارات دولي او إقليمي او عربي لم يزني بتلك الثورة. شوه المعارضون السوريون سمعة العمالة، بلعوا مليارات الدولارات وهم يذرفون دموع التماسيح على الشعب السوري، صفقوا لقصف إسرائيل لبلادهم، وحزنوا لاحجام أمريكا عن غزو سورية، فقد منوا النفس بالجلوس على فوهة الدبابات الامريكية تحملهم للسلطة، تناحروا وتعاركوا على مناصب هيئات المعارضة. وكان وصف رئيس الوزراء القطري”حمد بن جاسم” لهم وهو الاعلم بهم بانهم تجارا وجماعة بزنس وصفا دقيقا. كما كان تشخيصه لسذاجة رجال التغيير من جماعة الاخوان في مصر اثناء توليهم السلطة تشخيصا صائبا وهو الأقرب اليهم في تلك الفترة.
في لبنان اليوم كذلك ثمة تغييرون، وبعضهم وصل الى قبة البرلمان، هؤلاء امامهم أزمات بنيوية في الدولة. مثل الطائفية السياسية، والانهيار الاقتصادي، وملفات مثل انفجار مرفأ بيروت، والكهرباء، والفساد، والدين العام، واموال الناس المحتجزة في المصارف، وتهديدات إسرائيل في الجو والبر والبحر. اللافت ان بعضهم ترك كل تلك الملفات وذهب مباشرة للمطالبة بنزع سلاح حزب الله، في تطابق مع مطلب إسرائيل وامريكا. خطابهم الداخلي والخارجي متطابق مع خطاب قوى ١٤ اذار الموالية للغرب. فما هو الفرق بينهم وبين رموز تلك القوى من أمثال جعجع والسنيورة وريفي سوى انهم النسخة المقلدة منهم بثوب التغيير.
هل تكفي هذه المساحة للحديث عن قوى التغيير جميعها؟ في السودان في تونس، في الأردن، في العراق.
قوى التغيير العربية التي جعلت فلسطين في اسفل سلم أولوياتها، وهمها الأول إرضاء الولايات المتحدة والغرب. قوى التغيير التي لم تغير في الخطاب الديني نحو التجديد ونبذ التطرف والجهل والشعوذة، لم تغير في مناهج التعليم المتخلفة والرديئة. لم تغير في الفكر السياسي، لم تقرب بين الشعوب العربية، انما نحت نحو الانعزال والتقوقع، لم تغير في الخطاب الإعلامي انما انخرطت في الحملات الدعائية لتشويه الخصوم. لم تمتلك شجاعة مواجهة التطبيع مع إسرائيل او انتقاد الأنظمة المطبعة.
التغيير ليس في اعتلاء السلطة والتمسك بها وتغيير الدستور لمصلحة البقاء في الحكم.
هكذا اختصر التغييريون العرب المسألة. وهكذا تمكنت الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل من التحكم والسيطرة على حركة التغيير في العالم العربي، وبعد ان امرت بإعدام كركوز وعواظ الحكم والسياسية، وجدت مجددا الحاجة لهم واستنساخ ما يشبههم وعلى شاكلتهم لتحركهم على مسرح الظل. هل سيطول الزمن بنا حتى نتمكن من خلق حركة تغيير حقيقة مستقلة عن الإرادة الغربية وكركوزاتها؟ هل تبعث حركة تغيير من ضمير الامة ومن معاناتها؟ لابد من ذلك.
سيرياهوم نيوز 6 رأي اليوم