| جعفر المهاجر
في مقالته «حضارة الرافدين وجارتها الإيرانيّة: خرافة «الأُمّة العراقيّة الناطقة باللغة العربيّة»» («الأخبار»، العدد 4617) يقودنا الكاتب العراقي المعروف علاء اللامي إلى إشكاليّاتٍ تاريخانيّةٍ جمّةٍ مُتداخلة، تدور على الخليط الحضاري الهائل الذي تبادل على المنطقة الخصيبة شرق المتوسط وفي إطارها الصحراوي، والتي يعود الفضل في انضمامها، الإطار خصوصاً، إلى الجدل الحضاري العملاني العالق، إلى ثلاثة أنهارٍ كبرى (دجلة، الفرات والنيل)، لولاها لكانت مصر والعراق بقعتين عقيمتين. أمّا شرق المتوسط، المُسمّى بـ«الشام» التي تعني «الشمال» بالنسبة إلى أهل شبه الجزيرة العربيّة، أو قد تُسمّى بـ«الهلال الخصيب» لصفته الطوبوغرافيّة، فله قصّةٌ مختلفة، حيث الفضل في خصوبته ذاتيّة، مُستفادةٌ من جباله العالية، التي ترفع الهواء المُحمّل بالرطوبة القادم من البحر، فتُجبره على إلقائها بشكل هواطل موسميّة. ومن قبلُ بكثير كان العامل السكاني لعُمران كلّ تلك المنطقة، بمصرها وعراقها وشامها، هو الانهيار السكاني لشبه الجزيرة العربيّة بانحسار آخر عصرٍ جليدي، كانت الجزيرة أثناءه جنةً نباتيّة هائلة، يخترقها من الشمال إلى الجنوب نهران كبيران. اندثرت بانحساره وتفرّق سكانها في كل ما حولها. ولم يبقَ من آثارٍ ماديّةٍ لذلك الماضي الخصيب الغابر سوى خزين النفط والغاز الهائل الكامن في باطنها.
فهذه هي الخلفيّة التاريخانيّة الجامعة لأكثر العناصر البشرية في المنطقة. على الباحث في حضاراتها أن يأخذها بعين الاعتبار ما تسنّى له. ومَن لديه ريبٌ في ذلك، عليه، مثلاً، أن يتمعّن في أنّ مادة «س، ل، م» مهملةً أو مُعجمَة مُتمثّلَةٌ بالمعنى نفسه في لغاتها كافة.
ما تحت عنوان البحث أوسع وأعمق بكثير من أن يُحسَم في مقالة. ومع ذلك، فإنّ مُجرّد طرح إشكاليّاته المُتعدّدة هو بنفسه أمرٌ حسنٌ. أو فلنقُل أفضل بكثير من السكوت، وكأن ما من كبير أمرٍ ممّا يُقلقُ الباحث ويحفزه إلى العمل.
على سبيل تفصيل المُجمَل، سأختار من إشكاليّات بحث الأستاذ اللامي مسألة مَن يُسمّون بـ«الأنباط». ليس فقط لأنها عندنا جزءٌ مهمٌّ وعزيزٌ من تاريخنا، بل أيضاً لأنّ الكاتب ترك قارئه حائراً بشأنها. وذلك بأن قال: «إنّ بعض المؤرخين اعتبروهم [يعني الأنباط] عرباً». ثم ثنّى هو بوصفهم، من بين الذين اندمجوا بالعرب الفاتحين، بـ«الأنباط الآراميّون». ما يتركنا نفهم منه أنه هو ليس من «بعض المؤرخين» الذين اعتبروهم عرباً. ثم رأيناه يؤكّد ذلك حيث يتحدّث عن التشابه والتداخل إلى درجة الامتزاج بين العرب وبعض الشعوب الجزيرية الشقيقة كالأنباط، بما يحمله «الامتزاج» من معنى التغاير. كل ذلك على الرغم من أنه يأتي على ذكر «المؤرخ المُختص بحضارة الأنباط د. زياد السّلامين في بحثه المُتقَن: الأنباطُ عربٌ بالأدلّة التاريخيّة».
سنفتتح النقاش بالسؤال الآتي: من أين أتت كلمة «النّبْط»/«الأنباط» علَماً على أولئك؟
كثيرون من قبلنا طرحوا السؤال نفسه، من دون أن يأتونا بجوابٍ عنه تطمئن إليه النفس. خلاصته أنّه من استنباط الماء. لكن الجواب يفترضُ خصوصيّةً مستحيلة. لأنّ الناس قاطبة لا غنى لهم عن الماء. وكلُّ الجماعات تستنبطه حيث يعزّ بوسيلةٍ أو بغيرها. فلماذا اختصّ به أولئك؟! بل الحقيقة أنّ أحقّ الناس بالاسم موضوعياً هم العرب، عرب شبه الجزيرة من أهل الوبر، الذين كان من دأبهم، وخصوصاً أثناء ارتحالهم، استنباط الماء الكامن في رمال الأودية الصحراوية من الهطولات السابقة بحفر بئرٍ نزّازة.
مهما يكن، فإنّ العرب الذين سيُعرفون فيما بعد بالنبط ما إن بدأت وتتابعت آثارُ نهاية العصر الجليدي حتى بدأوا يهجرون مواطنهم التاريخيّة في شبه الجزيرة. وطبعاً كانت هجراتهم مُتعدّدة بالتزامن مع تصاعد التصحُّر والانهيار التدريجي للخصوبة والغطاء النباتي فيها، في ظلّ عجزهم عن التكيُّف معه. وكانت أغلب هجراتهم من غرب وشمال شبه الجزيرة. أمّا في الشرق والجنوب، فالظاهر أن الهجرة منهما كانت ضئيلةً أو معدومة، لِما هنالك من فارقٍ في طبيعة الأرض وبالتبع المناخ بين الاثنتين؛ الصفيحة المُنبسطة في الغرب والشمال، وبالتالي العاجزة عن الاستفادة من الهواطل القادمة من التجمعات المائية الهائلة التي تطوقها. أمّا في الأُخرى، فالأمر مختلف كما هو معلوم. ومن هنا رأينا اليمن الخصيب، وفيه فيما يُقال قامت مملكة عاد، وبعض مناطق عُمان الحاليّة، قد عرفت العديد من الحضارات القديمة مثل سبأ وحمير ومأرب. في حين ظلّ الذين بقوا في شبه الجزيرة هائمين، مأواهم الخيام، وعملهم في سبيل معاشهم محصورٌ في البحث عن الكلأ لتغذية قطعانهم. وبالنسبة إلى مادة خيامهم سُمّوا أهل الوبر.
لم تكن دولة البتراء النبطيّة الأكثر أهميّةً، من وُجهة نظرٍ حضاريّة، من بين المهاجرين المُتوالين من شبه الجزيرة. وإنّما وصلتنا أخبارها بفضل تمرّسها بالشأن السياسي. بل الفضل كلّ الفضل حضاريّاً للذين نزلوا منهم بلاد الرافدين Mespotamia بين نهرَي دجلة والفرات، حيث نهضت في الماضي أُولى المراكز الحضاريّة في العالم، من سامريّةٍ وبابليّة وأشوريّة وميديّة، وحيث بُنيت معارفُ الإنسانيّة الأُولى في الفلك والتقويم والهندسة والرياضيات والطب وفنون الزراعة، ممّا بعضه ما زال معمولاً به حتى اليوم (التقويم العالمي، مثلاً). ثم حيث سيكون مهبط الرسالات وخاتمتها رسالة الإسلام.
في الكوفة ونطاقها تمازج العربُ المهاجرون من شبه الجزيرة بالسريان وبثقافتهم وعقليّتهم وخبراتهم. ليقوم نمطٌ من الحوار الحضاري العملاني الصامت، نال اللغة وأُسلوب العيش. ما يهمّنا منها الآن أنّ اللغة العربيّة للمهاجرين طفقت تتطعّم بكلماتٍ من الآراميّة الشرقيّة، لغة السريان. ممّا نجدُ آثاره حتى اليوم في المحكيّة العراقيّة. وأنهم باتوا يمتهنون من المهن ما لم يكونوا يعرفون ولم يكن يعرفها من قبل العرب كافة. في هذا السياق المتغيّر، فيما نحسب، نشأت كلمة «النبط» علَماً عليهم، كأنّما لتعكس نمطاً من الغضب المكتوم على أولئك الذين خرجوا على ذاتهم الثقاف – حضاريّة الضئيلة. كانت من القوّة بحيث أنجبت مثل العبارة المُلتبسة: «الأنباط الآراميّون» لدى الأستاذ اللامي.
إنّ من سُمّوا بـ«النبط» هم أكثر العرب المسلمين في المشرق العربي عديداً. كما أنهم بالتأكيد أبعدهم حضوراً وأثراً في تاريخه السياسي والاجتماعي والأدبي والفكري
في هذا السياق التغيري عاش أسلافُ قريش (القبيلة، هل كانت قبيلةً حقاً؟) التي سيكون لها من الأثر العظيم ما سيمتدّ على القرون الستة التالية. أي منذ ظهور الإسلام في أحضانها وفي مدينتها مكة، حتى نهاية الدولة العباسيّة. وربما عاش فيه أيضاً أسلاف ثمود (القبيلة) النبطيّة ذات التاريخ الغامض، التي بنَتْ في قلب شبه الجزيرة، بالتراصُف الزمني مع البتراء، مدينة عظيمة منحوتةً في الحجر كالبتراء اسمها «الحجر»، تُعرف اليوم بـ«مدائن صالح». ثم كانت مهبطاً لرسالة نبيّ اسمه صالح (لاحظ اسمه العربي). أصابت شيئاً من القبول بين قومه في البداية. ثم انتهت أثناء القرن الثالث للميلاد بكارثةٍ كونيّة، عبّر عنها القرآن العزيز بـ«الصّيحة». يُعزّزُ هذه الصورة التاريخيّة القرآنيّة الرهيبة لنهايتها أنّ من المؤكّد أنّها لم تنتهِ بعملٍ عسكري على يد عدوٍ لها كرصيفتها البتراء. ولو كان لذُكر. نقول هذا كي لا نذكر أيضاً حاضرة «مديَن» المعروفة بـ«مدائن شعيب» في إقليم الحجاز غرب شبه الجزيرة، التي تُشبه بنيتُها مدينة «الحجر». كما كانت أيضاً مهبطاً لرسالة ورد ذكرُها في التوراة عدّة مرات، كما ذكرها القرآن العزيز، بمناسبة أن النبي موسى عليه السلام دخلها، وأن الله تعالى بعث في أهل «مدين» نبياً منهم اسمه «شُعيب». لكنّنا لا نعرف ما يُذكر عن هُويّة نبيّها وقومه. ومن بقايا ذلك الخليط اللغوي لأولئك جميعاً الشعر الشعبي لشبه الجزيرة المُسمّى، ويا للأمانة، بالشعر النبطي.
إنّ أصالة الجماعة التي ستُعرفُ فيما بعد باسم قريش في النبط هي من الأُمور الثابتة. من أبرز شواهدها عبارة علي عليه السلام الشهيرة: «مَن كان سائلاً عن نسبنا فإنّا نبطٌ من كوثى». وثانية عن ابن عمّه ابن عباس: «نحن معاشرَ قريش حيٌّ من النبط من أهل كوثى». و«كوثى» هذه اليوم قريةٌ في نطاق الكوفة. والظاهر أنّه بعد قرنٍ تقريباً من دمار «الحجر» حصلت هجرةٌ نبطيّةٌ معاكسةٌ كبيرةٌ من «كوثى» باتجاه «الحجاز» نزلت الوادي الصغير الذي تتوسّطه الكعبة، التي كان النبي إبراهيم عليه السلام قد رفع قواعدها في قصّةٍ معروفة. ما من حاجةٍ للخوض في شأنها بأكثر من هذه الإشارة.
المُهمّ أنّ جماعة قريش تكاثرت في منزلها الجديد وتعدّدت بطونها بحيث باتت بعد قرنين تقريباً من عشرة بطون. وكانت من الدهاء بحيث استغلّت ما للكعبة عند سائر عرب الوبر المُنتشرين من حولها من قُدسيّة. فجعلتها محلاً للأصنام المعبودة لكلّ قبيلةٍ منهم، يحجّون إليها في موسمٍ معلوم. وبذلك اكتسبت موقعاً كهانويّاً عالياً بينهم. ثم إنها نظّمت نفسها فيما يُشبه الدولة، لها جامعة سياسيّة سمّتها «المَلَأ». تتمثّل فيه بطونُها العشرة. لكل بطنٍ منها «حقيبته»، فواحدٌ للدفاع (الأعنّة)، وثانٍ للمال، وثالث لشؤون الحاجّ (السّقاية)… إلخ. فضلاً عن أنّها استفادت من موقع مكة على الطريق التجاري الذي يربط جنوب شبه الجزيرة ببلاد الشام فتعاطت التجارة واختصّت بتداول المال وتمرّست فيهما، إلى درجة أن الذهب سُمّي في بعض الأدبيّات بـ«النّضار المكّي». ومن الغنيّ عن البيان أنّ قريشاً لم تبتدع هذا النمط الحضاري ذي الوجوه غير المسبوق حيث هي ابتداعاً، بل حملته من خبراتها الواسعة في المنطقة الحضاريّة العريقة التي عاش فيها أسلافُها، ممّا بسطنا الكلام عليه فيما فات، بدونه ما من تفسيرٍ لإنجازاتها الحضاريّة الباهرة في مهجرها. في هذه البيئة التمدينية نشأت آخرُ الرسالات الإسلاميّة نشأتها الأُولى. وفي هذا السياق ابتدع الإسلامُ المُحمّدي في كتابه علَماً لأهل الوبر اسماً جديداً على اللغة: «الأعراب»، تكرّر ذكره فيه عشر مرات. وفي المُقابل وصف حوريّات النعيم بـ«عُـرُب». وفي ذلك من التمييز لمصلحة الـ«عُرُب» ما يحسّه المالك للحسّ اللغوي. ثم إنّه ظلّ يُندّد بهم: «الأعرابُ أشدُّ كفراً ونفاقاً» حتى بعدما دخلوا في جملة الذين أسلموا: «قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا». والحقيقة أن أولئك «الأعراب» ظلّوا بعد الإسلام على ما كانوا عليه قبله. لم يأخذوا منه ولم يعطوه. بينما الذين حملوا صفة «النبط» أنشأوا الدّوَل: الأُمويّون في الشام، والعباسيون في بغداد، والفاطميون في القاهرة. كما كان منهم عامّة مَن حملوا عـبء الثقافة الإسلاميّة اقتباساً وتجديداً. «الدُّول» الوحيدة التي تسيّدها «الأعراب» بعد خمول قرون طوال، هي ما أُقيم لهم في زماننا في شبه الجزيرة بمواقع ومساحات وقاعدة بشريّة محسوبة ولمرامٍ معلومة. والكلام في هذا الباب طويل. نكتفي منه الآن بهذه الإشارات.
بطل هذا الإنجاز العظيم أُسرةُ بني مَزْيَد النبطيّة، التي أنجبت سلسلةً من الأُمراء، امتازوا بالكياسة السياسيّة والميل إلى السلام والمُسالمَة. في الزمان الذي كانت فيه الإمارات عسكريّةً حصراً، تنهض وتستمر بالبطش. تمتّع بنو مَزْيَد لدى الكافّة بالسُّمعة الطيّبة، بوصفهم أُسرةً ذات صفاتٍ قياديّةٍ فذّة. لكنّ ما كان الأكثر أهميّةً لدى جمهور الناس فيما يخصّها، أنْ ليس في تاريخها إطلاقاً أنّها سلكت أو شاركت في اللعبة السياس – عسكريّة الخشنة العالقة من حولها، بإدارة المُغامرين العسكريين الغُرباء وبعض أرباب القبائل، على حساب سلام الناس وهناءة عيشهم وانصرافهم إلى تحصيل موارد رزقهم وتنميتها، بل عاشت معهم وبينهم، واكتسبت موقعها المُتقدّم من قبلُ في مواطنها السابقة، بكامل الهدوء والسلام، من دون أن تدخلَ أو يدخل معها أحدٌ في نزاع. هوذا، فيما تدلُّ عليه الدّلائل، العاملُ الجاذبُ للعناصر البشريّة التي اندمجت في مشروع عمارة الحلّة وعمرانها، والسرّ في نهوضها المادي السريع، بناءً وسُكاناً. وهو الذي مهّد وهيّأ لنهوضها المعنوي القادم على جناحٍ ذي ألوان.
ثم إنّ العناصر البشريّة التي شكّلت مادتها السكانيّة كانت مختلفةً كل الاختلاف: عربيّة من بني أسد الشيعة، أكثر قبائل نطاق الكوفة عديداً وما يزالون، أكرادٌ جاوانيّون شافعيّة أتوا من بلدة الدٌّجيل على نهر دجلة، سريانٌ نصارى وقفنا عند شأنهم فيما فات. لكنّ الجميع سرعان ما انخلعوا من ماضيهم واندمجوا اندماجاً عجيباً تحت تأثير سحر المدينة والتّمديُن. كان من جملة آثاره النهضة الفكريّة الباهرة للمدينة، حيث كان للسريان ولإرثهم الحضاري دور البادئ والمُوجّه. ثم تابعهم على الدّرب اللاحب الذي شقّوه أعلامٌ كبارٌ من بني أسد، مع حضورٍ لم ينقطع للسريان. أمّا الأكراد فقد ولّوا جانب الدفاع عن الإمارة وحمايتها. فكان منهم عسكرها وقادته. وممّا لا ريب فيه أنّ ركون تلك العناصر الثلاثة المُتنافرة إلى مشروع بناء مدينة جديدة، لتكون الحاضنة لمشروعٍ سياسي، إنّما لاطمئنانهم إلى القادة المزيديين، الذين ورثوا من أصلهم النبطي العقلَ السياسي الذي افتقرت إليه كلُّ المشروعات ذات الصفة العسكرية في ذلك الأوان. وتلك قصّةٌ جميلةٌ رويناها بالتفصيل في كتابنا المذكور أعلاه. إذاً، فليكُن ختام البحث الدعوة إلى قراءتها كاملةً هناك.