| فراس عزيز ديب
في علمِ النفس هناك رابط وثيق بين السَّادية وبين الشخصية التي تلهَث للانتقام، عندها تصبح فرضية إلحاق الضرر بالآخر هي الهدف الذي تتكرس لهُ كل الإمكانات، بمعزل عن الرؤية الإستراتيجية الهادئة التي قد تمكن السادي من معالجة الزوايا جميعاً في الوقت ذاته ومقارنة حساب الربح والخسارة، فتجعل إلحاق الضرر نتيجة لهذه الإستراتيجية وليسَ العكس.
بواقعيةٍ كبرى يبدو أن ما يجري بين الروس والدول الغربية هو تجسيد حقيقي لهذه الجدلية فالهوس الغربي بإلحاق الضرور بروسيا جعلَ هذا الغرب يتصرف بطريقةٍ لم يعد يفهمها حتى أعتى عتاة الكراهية لما يسمونه النظام الروسي في وسائل الإعلام الغربية، هوس يدفع الغرب للمزيد من ارتكاب الأخطاء لتصبح صورةَ عناق الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي أشبه بكاريكاتير حيّ لم تقف حدود السخرية منهُ عند المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا.
«إذا كنتَ تحبه فاتركه عندك»، «أعطوا ماكرون سلاحاً ليقاوم الروس على جبهات القتال بدل الوعود الكاذبة للأوكرانيين»، «هل لكم أن تشرحوا لنا ماذا استفدنا من هذهِ الزيارة»؟ هذه عينة بسيطة من تعليقاتٍ الفرنسيين على هذهِ الصورة، ردَّات فعلٍ لا توحي لك فقط بحجم الهوة بين الشعوب وقادتها لكنها تأخذنا للعبارة الجوهرية التي قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال افتتاح منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي: «إن الاتحاد الأوروبي فقدَ السيادة بشكلٍ كامل».
أحببتَ فلاديمير بوتين أم لم تحبه هذا رأيك، لكن هذا يجب ألا يمنعكَ من الإصغاء لما يقوله ورؤيةَ ما يفعله، ولعلَّ منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي جاءَ في هذا التوقيت مع يوبيله الفضي ليكون أشبهَ باختبارٍ بين واقع المشهد الدولي وبين البروباغندا التي تتحفنا بها الماكينات الإعلامية الغربية، أشبه باختبارٍ جدي لقدرة الروس على الصمود اقتصادياً والانتقال نحو تكتلٍ اقتصادي يستطيع إلحاق الضرر بالطرف الآخر في شتى المجالات وهو ربما ما جسده هذا الحدث في اتجاهين أساسيين:
أولاً – في الشكل
لعلَّ اسم المنتدى الذي يحمل اسم ثاني أكبرَ مدينةٍ روسية وما تحملهُ هذهِ المدينة من رمزيةٍ للصمود في وجه النازية القميئة قد يبدو متعباً لمن يحلم بالسقوط الروسي، كذلك الأمر فإن شعار المنتدى هذا العام حملَ في عنوانهِ الرئيس عبارة «عالمٍ جديد»، أرادَ الروس تطبيق رؤيتهم لما يجري في العالم من انتهاء لعالمِ القطبية الواحدة عبرَ الاقتصاد، وتحديداً أن فكرةَ «عالم جديد» تتجسد بظهورِ قطب يتمكن من دعوةِ أربعين دولة بما فيهم الدول الأكثر سكاناً في العالم، هذا يعني أن لا فصلَ أبداً بين الطموحات الاقتصادية للروس وبين الطموحات السياسية تحديداً عندما أثبتت الحرب الباردة عبرَ عقودٍ من الزمن بأن تكديس السلاح يجب ألا يكون على حسابِ الاقتصاد، لتنتقل روسيا الحالية نحو حصاد القمح السياسي المبني على التكامل بين القوة العسكرية والاستقلال الاقتصادي.
في السياق ذاته فلقد شكَّلَ حضور هذهِ الدول بقدراتها الاقتصادية والبشرية الكبيرة وعلى رأسها جمهورية الصين الشعبية فرصة لدعوةِ من لا يزال أسيراً لادعاءات العالم الحر بأن الحرب على أوكرانية سرَّعت من عزلةِ ما يسمونهُ النظام الروسي لكي يعودوا إلى رشدهم، على هؤلاء التفكير مليَّاً بفحوى العبارات التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في هذا المنتدى وتحديداً ربطه لفكرة ارتفاع حجم التبادل التجاري بين كل من روسيا والصين بالقدرة على مقاومة الضغوط وإمكانات التعاون بين البلدين، هذا يعني أن الخيارات الاقتصادية والعسكرية لكلا البلدين باتت محسومة!
ثانيا – في المضمون:
كان من اللافت أنه في الوقت الذي يقول فيه الرئيس بوتين خلال المنتدى إن الوضع الراهن في أوروبا سيؤدي إلى «تصاعد الراديكالية» وتغيير النُّخب الحاكمة في المستقبل، فإن استطلاعات الرأي في الانتخابات البرلمانية الفرنسية تفشل وللمرةِ الأولى في عهد الجمهورية الخامسة بترجيح كفة الرئيس بالحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التشريعية التي يجري دورها الحاسم صباح اليوم، حيث إن هذه الانتخابات حملت في دورِها الأول يوم الأحد الماضي ما وصفته الصحف الفرنسية كأسوأ نتيجةٍ لرئيس فرنسي في الجمهورية الخامسة، وبالتالي تبدو فرضية خسارته الأغلبية البرلمانية ورضوخهِ لتسميةِ رئيس وزراء من المعارضة قائمة وبشدة ما لم تحدث أي مفاجأة، ولعلَ ما يرشح عن الميول الانتخابية يوحي لنا بما هو أسوأ من ذلك، فالأغلبية البرلمانية المترهلة قد تُنقذ الرئيس على المستوى الداخلي ولكن ماذا عن المستوى الخارجي بعدَ أن ذهب ماكرون في زيارةٍ غير مفهومة لأوكرانيا وعادَ ليجد البلاد مهددة بفقدان الغاز الروسي؟
مبدئياً، يبدو من المفيد الحديث عن الوضع في فرنسا حالياً لكونها ثاني أكبر اقتصاد أوروبي والقوة السياسية التي تقود الاتحاد بالتشارك مع ألمانيا، هذا النموذج لما تعاني منه القوى الأكبر يقودنا تلقائياً لفهمِ ما قد تعاني منهُ الدول الصغرى التي لن يطول عليها الوقت حتى تعلن رفعَ الرايةَ البيضاء بوجه المعاناة الاقتصادية، كيف لهم تحمل تلك المعاناة وهي المعاناة ذاتها التي أجبرت حتى الرئيس الأميركي جو بايدن للخضوع إلى المملكة العربية السعودية ليضع كل الشعارات الانتخابية جانباً، بما فيها قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
قد لا يستطيع البعض الاعتراف بأن ما قامت به المملكة العربية السعودية من إحراجٍ للرئيس الأميركي جو بايدن ورضوخه حتى لفكرة المبادرة بالزيارة هو إنجاز، بايدن وإدارته لم تسعفهما كل عبارات الهروب من الهزيمة السياسية أمام المملكة فتارةً يربطون الزيارة بحضور مؤتمر وكأن هذا المؤتمر لا يُعقد إلا برعاية سعودية وبحضور من ادعت إدارة بايدن سابقاً رفضها لقاءهم، هو كذلك الغرب الأخلاقي يعرف تماماً كيف يبيع الشعوب شعارات عن حقوق الإنسان ثم ينسحب من الدفاع عنها بطريقةٍ تجعله أمام قطيعه بطلاً، ليزور بايدن المملكة وهو محملاً بالهموم الاقتصادية لتبدو معها العبارة الشهيرة «عندما تعطس أميركا يصاب الاقتصاد العالمي بالزكام» بطريقها نحو التلاشي، فالرئيس القادم لتوسل المملكة العربية السعودية لزيادة إنتاج النفط بهدف إعادة التوازن للأسعار لم يعد قادراً أن يشرح للعالم أن عقابنا للروس قد يدمرنا لكنه ببساطة غير قادرٍ على الانسحاب، فما بالنا إن حدثَ التكامل المرعب بين روسيا والصين؟!
هذهِ العبارة التي حاولت الرأسمالية المتوحشة تعويمها في هذا العالم على طريقةِ العبارات الهدّامة المغلفة بجلد الأفاعي أسقطها الروس، فالاقتصاد الأميركي اليوم لا يعطس فحسب، بل هو في مرحلةٍ أسوأ من ذلك، واللافت أن القضية لم تعد مرتبطة بالاقتصاد فحسب نتحدث عن المصداقية الأميركية في شتى المجالات، كان آخرها كمثالٍ بسيط رفض الولايات المتحدة تسليم أوكرانيا طائراتٍ من دون طيار حديثة بذريعةِ الخوف من وقوعها بأيدٍ روسية، هذا الرفض تلا الرفض الأميركي تسليم أوكرانيا منظومة «صواريخ هيماريس» بذريعة الخوف من استخدامها ضمن الأراضي الروسية؟ هل هو الهوس بربط كل شيء بالروس؟ قبلَ الإجابة عن هذا السؤال ربما على الرئيس الأوكراني أن يسأل من يبيعونه الوهم: لماذا تثقون بأن هذهِ الطائرات ستقع بأيدٍ روسية؟
من الواضح حتى الآن أن كل شيء يسير بهدوء نحو تحقيق الروس والصينيين الكثيرَ من النقاط في معركةِ كسر العظم الجارية حالياً، ومن الواضح أيضاً بأن الغرب لم يعد أمامه الكثير من الأوراق ليلعبها خارج نطاق الحرب الشاملة التي تبدو مستحيلة، القضية ليست بمنتدى اقتصادي من عدمه القضية ببساطةٍ تبدو وكأن الروس والصينيين حاولوا القول لكل من لا يريد أن يفهم ما يجري حوله من متغيرات: أنا أُشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى أصبعي.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن