| بثينة شعبان
التقاطع بين بيرني وبوتين في عدم صلاحية الرأسمالية كنظام يظهر أنّ بناء عالم جديد على أسس أكثر توازناً ممكناً، وأنّ المسار لتغيير العالم وتخليصه من القطب الواحد قد انطلق.
بيرني ساندرز يعرّف بنفسه أنه من “المستقلّين الذين خدموا أطول فترة في تاريخ الكونغرس في الولايات المتحدة”، كما أنه كان مرشحاً رئاسياً بشعبية واسعة، ولكن لم تكن لديه فرصة؛ لأنه لم يتمكن من الحصول على التمويل الكافي لحملته الانتخابية. في مقابلة على تلفزيون “فوكس نيوز” يقول بيرني: “ما سأخبركم به اليوم هو شيء لا تسمعونه كثيراً على محطات فوكس أو سي إن إن أو أي بي سي أو واشنطن بوست، أو شيء تسمعونه حقيقة في قاعات الكونغرس”. وبدأ، بعد ذلك، بتفنيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والصحي في الولايات المتحدة، وبأن الطبقتين العاملة والوسطى تعيشان في ورطة كبيرة، إذ يعيش 70 مليون أميركي من دون تأمين صحي، في أغنى بلد على وجه الأرض، بينما يمتلك شخصان ثروة أكبر مما يمتلكه 40% من الأميركيين، وتمتلك نسبة 1 % من الأميركيين أكثر مما تمتلكه القاعدة الشعبية ونسبتها 92% من السكان، ويكسب الرؤساء التنفيذيون للشركات الكبرى 350 ضعفاً مما يكسبه العاملون لديهم. وتساءل بيرني “ماذا يعني هذا؟” وأجاب: “هذا يعني أننا يجب أن نضع نهاية لنظام سياسي فاسد تشتري فيه الأموال الوفيرة الانتخابات”.
بهذه الجملة الأخيرة، عبّر بيرني عن جوهر النظام الديمقراطي الذي تحاول الولايات المتحدة أن تعمّمه على العالم بأسره، وهو نظام قائم على شراء الذمم، ودفع الرشاوى، وتحكم المال بنتائج الانتخابات وممثلي الشعب، وبالدولة في أي مكان. وهذا الأنموذج تطبقه الولايات المتحدة في أي بلد تعمل على “إصلاحه” بعد “احتلاله”، كما فعلت في أفغانستان والعراق وليبيا، وفي أي بلد تمكنت من فرض إرادتها وهيمنتها كالبلدان الأوروبية، التي ترى حكوماتها تنصاع للولايات المتحدة حتى وإن أضرّ هذا الانصياع بمصالح بلدانهم، كما يحدث حالياً بالعقوبات على روسيا.
أهمية كلام بيرني تأتي من التوقيت أيضاً؛ لأنه يتحدث في وقت طرح العالم في كل أنحاء الأرض أسئلتهم، التي كانت في وقت قريب محرمة أو ممنوعة، أو غير قابلة للتصديق، على الطاولة. وأهمية كلام بيرني تأتي من أنه لخّص بحصافة وإيجاز أزمة النظام الرأسمالي القائمة اليوم ليس فقط في الولايات المتحدة وإنما في الاتحاد الأوروبي والغرب، ومن يتبعهم عموماً.
ومن هذا المنظور، كان التقاطع المفهوماتي والاستراتيجي بين ما صرّح به بيرني على شاشة “فوكس نيوز” باختصار شديد، ولكن بأهمية بالغة، وبين ما تحدث به بوتين مطولاً عن رؤية استراتيجية روسية للوضع العالمي، وللوضع في روسيا، في هذه الظروف، وبدأ بالقول إن هنالك الكثير من التساؤلات والإشكالات في المفاهيم اليوم، وذلك بسبب الأوهام التي ما زال الغرب يعيشها، ويحاول أن يفرضها على الآخرين. فمع أن هجوماً سيبرانياً قد أخر بوتين ساعة عن إلقاء كلمته في المنتدى الاقتصادي الدولي في سانت بطرسبورغ، إلا أنه اعتلى المنبر بملامح وخطى واثقة وبلغة متّقدة تليق بمن يحمل رسالة نبيلة ليس لروسيا فقط وإنما للبشرية برمتها، وبدأ بالقول “أودّ أن أشاطركم رؤية روسيا”، وهذه عبارة جوهرية تعيد تفسير أهمية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا ومكانتها، وتضعها في إطارها الصحيح والضيّق إلى حدّ ما؛ لأن الرؤية تشي بتصدي بوتين إلى وضع مقلق في العالم، وتصميمه على قيادة المسار لتصحيح هذا الوضع، وإن استغرق ذلك عقداً أو عقدين من الزمن؛ لأن المهمة مصيرية للبشرية ومستقبلها.
وبعد أن فنّد أوهام الغرب وأساليبه في الالتفاف والتضليل، أسهب في شرح عوامل القوة التي تمتلكها روسيا؛ لتحصين البلد من الداخل في جميع القطاعات الزراعية والصناعية والتعليمية والأعمال، “وأن العقوبات التي كانت تستهدف روسيا والعملة الروسية بالذات قد حولناها إلى عنصر قوّة، حيث أن الروبل اليوم أقوى مما كان عليه” قبل العملية العسكرية الخاصة كما أسماها، بينما فقد اليورو والدولار نسبة مهمة من قيمتهما خلال الفترة ذاتها. وأبدى اهتماماً لطيفاً بالدول التي دفعت أثمان ارتفاع مواد مثل الأسمدة وتأثيرها في الزراعة في العالم، ولكنّ كل التأثيرات السلبية على الاقتصاد العالمي هو نتيجة إجراءات الدول الغربية وضيق أفقها وعدم اكتراثها بمصالح الشعوب.
وقد توجّه بوتين إلى شعبه وحفّز همته وشدّ من أزره وعزيمته وحيّا الوطنيين الذين يركزون على الاستثمار في روسيا، خاصة أن الأوليغارشية الروسية قد خسروا مدّخراتهم كلها في الغرب، وأشار: ” نصحناهم ألا يضعوا أموالهم في الغرب ولكنهم أصرّوا، فخسروا”. وقال ليس المال هو الأهم بل الشرف والاسم النظيف الذي يرثه الأولاد والأحفاد، مؤكداً الانتماء الوطني والإخلاص للنهج الوطني، وخاصة في المراحل الدقيقة التي تمرّ بها البلاد.
كما عبّر بوتين عن ثقته بحلفائه وتوجهاتهم وأنهم يشكلون الغالبية العظمى في العالم، ولمَ لا، وقد كان الرئيس الصيني شي جينبينغ قد اتصل به قبل يومين، وأكد عمق الشراكة الصينية الروسية، وتطوّر علاقات البلدين بشكل غير مسبوق. وأكد تحالفات دول البريكس وتوجهاتها إلى مستقبل مشترك والتفاهمات على القيم والمفاهيم التي يجب أن تحكم العالم. وفي الوقت ذاته، تعلن الصين عن امتلاكها حاملة الطائرات الصينية الثالثة، وهي صناعة صينية خالصة قادرة على حمل أكثر من 50 طائرة وتعبر مضيق تايوان.
تشعر بثقة أكيدة وأنت تستمع إلى خطاب بوتين أن طموحه ليس أوكرانيا، وأن هدف العملية العسكرية في أوكرانيا، كما أعلن بيسكوف، هو حماية جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، ولكن المسار لتغيير العالم وتخليصه من القطب الواحد قد انطلق، وكان التركيز في كلمة بوتين على أن هذا ممكن ومتاح، وأن التجربة الروسية في هذا العام برهنت على أن روسيا لم تتجاوز آلاف العقوبات التي فرضها الغرب عليها فقط، ولكنها أعادت السهام إلى صدور مطلقيها، إذ انعكست هذه العقوبات، التي توهموا أنها ستشلّ روسيا، انعكست غلاءً وركوداً وأزمة اقتصادية خانقة في الغرب، قد تبدأ تداعياتها في الظهور في الشتاء القادم حين تتفاقم أزمة الوقود وقد تكون الشرارة في تغييرات داخلية في الغرب.
التقاطع بين بيرني وبوتين في عدم صلاحية الرأسمالية كنظام اقتصادي وسياسي واجتماعي اليوم لإيهام العالم بنجاعة نموذجها، بل الواقع يقتضي تغييراً جذرياً في المفاهيم والأسس التي بنيت عليها هذه الأنظمة الرأسمالية، وما قدمه بوتين للصين وإيران وأميركا اللاتينية وباكستان والهند، وكل الدول الطامحة إلى لعب دور دولي مستقبلي، هو أنه من الممكن جداً بناء عالم جديد على أسس أكثر توازناً وأكثر عدلاً ومساواة ورفاهية للشعوب، وأكثر حرية وديمقراطية وكرامة مما أوهمنا الغرب على مدى عقود خلت.
خطاب بوتين في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي في 17/6/2022 جدير أن يُدرس، وأن يُدرّس في كل الدول الطامحة لإحداث تغيير حقيقي لمصلحة شعوبها وشعوب العالم أجمع.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين