| علاء اللامي
إن استقراء وتحليل جذور اسم «العراق»، ومناقشة النظريات العلمية حوله وربطه علمياً بجذره الجزيري «السامي»، كلّ ذلك يرتبط أوّلاً وقبل كل شيء بحقيقة وجود هذا الاسم في القرن الثامن قبل الميلاد بصيغة «أراكيا/ أراقيا» في الوثائق الآشورية التي نشرها وحلّلها العالم والمؤرّخ الأميركي ألبرت أولمستيد صاحب كتاب «HISTORY OF ASSYRIA». وهذا التوثيق الآثاري/ الأركيولوجي الذي يقدّمه أولمستيد يمكن أن يلخص لنا، وبشكل غير قابل للدحض، الهوية العربية الجزيرية لهذا البلد، بدءاً وحاضراً، رغم أنه يختلف في التفاصيل عن التخريجة الإتيمولوجية/ التأثيلية والفيلولوجية بالمعنيين اللذين يستبطنهما فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة، التي تربط بين اسم العراق واسم «أوروك»، كما سيأتي بيانه بعد قليل. ويكشف لنا كيف تطورت المفردة عبر التاريخ مثلما تطور نسيج البلاد الإناسي/ الأنثروبولوجي والسكاني/ الديموغرافي واستقر عند التجلي الجزيري الأخير، «العربي»، قبل أربعة عشر قرناً مستمرة، مروراً بسلسلة التمظهرات الإناسية (الأنثروبولوجية) الجزيرية السابقة انطلاقاً من هويته الأكدية ثم الأمورية فالآشورية والآرامية فالكلدانية التي انتهت بالاحتلال الفارسي الأخميني ثم اختُتمت بهوية جزيرية جديدة هي العربية التي سادت وأمست عماد الحضور الديموغرافي العراقي بعد أكثر من أربعة عشر قرناً أعقبت الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي.
إن قراءة السردية والحيثيات التاريخية في تسلسلها الزمني (الكرونولوجي) الخاصة باسم «العراق» تعكس بدقة ووضوح هذا الواقع الهوياتي العربي، وإنْ بشكل غير مباشر أو غير مقصود، ولكن بشكل لا يمكن نكرانه أو التلاعب به كما يحاول المناهضون المعاصرون لعروبة العراق الحضارية والإناسية أن يفعلوا بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003. ونقول «العروبة الحضارية والإناسية» لا العروبة العرقية السلالية. فهذه الأخيرة أمست في عموم المشرق خرافة فارغة من أي محتوى منذ قرون عديدة، بفعل الهجرات الواسعة النطاق والكوارث الطبيعية وعوامل المناخ والحروب والغزوات التي قامت بها شعوب المنطقة جمعاء وطاولت كل زاوية من زوايا الشرق تقريباً، بل وشارك فيها الغرب الأوروبي بقسط وافر في صنع وكتابة تاريخ المنطقة قديماً وحتى حروب الفرنجة، التي سمّاها الغربيون لا العرب «الحروب الصليبية» ومزجت في مرجل التاريخ والديالكتيك شعوب المنطقة مزجاً عميقاً على صعيد الإنثوغرافي مع احتفاظه بهويته الثقافية – اللغوية – الجزيرية السامية العربية في العراق والشام وشبه الجزيرة ثم امتداداً إلى مصر وبلدان شمال أفريقيا لاحقاً.
عوداً إلى موضوع اسم العراق القديم، نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب – وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.
إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وهو غير دقيق تماماً؛ فعبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية التي تأسّست في بلاد الرافدين خلال القرن الرابع عشر ق.م، وزالت من الوجود كدولة في القرن السابع ق.م. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.
أمّا ترجمة «بيث نهرين» إلى عبارة «بيت النهرين» ترجمة خاطئة، فمنشؤها – كما يكتب أحد المهتمين بالموضوع – الخلط بين كلمة «بيث» و«بيت» التي تعني البيت والمنزل، ولكن التدقيق في هيئة الكلمتين بالخط الآرامي لا يظهر لنا أي فرق بينهما كتابة، فهل هناك فرق لفظي لا نعرفه؟ يبقى هذا السؤال مفتوحاً في الوقت الحاضر على الأقل. أمّا ترجمتها إلى «وطن النهرين» فالراجح أنها ليست ترجمة بعيدة عن المضمون، إذْ إنَّ البيت يعني في ما يعني الوطن، ليس في اللغات الجزيرية السامية فحسب، بل حتى في اللغات الهندوآرية كالإنكليزية المعاصرة.
إذاً، «بيث نهرين» هو اسم العراق القديم في اللغة الآرامية – وهي أقرب اللغات الجزيرية «السامية» إلى العربية، وقد تطورت الآرامية لاحقاً إلى السريانية؛ وتعني عبارة «بيث نهرين» باللغة العربية «بين نهرين»، وهي المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات ومحيطهما وكذلك روافدهما. والاسم يشير أيضاً إلى المنطقة باعتبارها حول الأنهار، وليس فقط حرفياً بين الأنهار. ومنه اشتقاق «نهرايا»، وهو المعادل الآرامي لـ«بلاد ما بين النهرين».
وعن العلاقة بين الآرامية والسريانية، يمكن التذكير هنا بأن بعض الباحثين يرى أنها هي اللغة نفسها تقريباً، أو ربما تكون لهجة منها، ولكنّ المسيحيين العرب والشرقيين نأوا بأنفسهم عن اسم «آرامية» لأنه عندهم ذو محمولات وثنية فاستقروا على اسم «السريانية»، فيما نسب الشيخ الباحث جعفر المهاجر أخيراً، في مقالة له في «الأخبار» 16 حزيران 2022، السريان إلى مدينة سمّاها «سورى» قرب الحلة العراقية. وهي بلدة «سورا أو سوراء» على نهر بهذا الاسم واختلفوا في صيغة النسبة السائدة إليها بين (السّوراني، والسّوراوي، والسّيوري). ووجهة نظر المهاجر تستحق التمحيص والتحليل المنهجي باستعمال طرائق البحث العلمي الإيتيمولوجي والفيلولوجي والأدلة الآثارية «الأركيولوجية» إنْ توفّرت ولا يعول فقط على الإنشاء الانطباعي والمقاربات التخمينية. أمّا نسبة السريان والسريانية إلى سوريا، فهي وجهة نظر أخرى يتبناها باحثون عديدون لهم حججهم وفيها نقاط ضعفها مثلما فيها نقاط قوتها، ونأمل أن نخصص لهذا المفصل من البحث وقفة أخرى مستقبلاً.
إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبيث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها بيت ناهراواتا (بين الأنهار)، و (Meṣʿaṯ Nahrawwāṯā) أي (وسط الأنهار).
يذهب أولمستيد، كما يلخّص لنا سلام طه في ورقة أعدّها حول الموضوع، إلى «أن أول استعمال لكلمة العراق وردت في العهد البابلي الكاشي/ الكيشي»
وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية نهرايم (Naharaim). وهناك استخدام يوناني سابق لاسم بلاد ما بين النهرين بصيغته الآرامية ورد في «أناباسيس الإسكندر= تاريخ رحلات الإسكندر الحربية» بلفظة بوتاموس نهرايم. ورد هذا الاستخدام في الأناباسيس في عهد الإسكندر، الذي كُتب في أواخر القرن الثاني الميلادي، ولكنه يشير على وجه التحديد إلى مصادر أقدم من زمن الإسكندر الأكبر. ويشمل المصطلح آنذاك مقاطعة تشكل جزءاً من بلاد الرافدين القديمة ويشمل هذا الجزء الأرض الواقعة شرق نهر الفرات في شمال سوريا الحالية.
-يشمل إقليم «بيث نهرين» الرافدين، الأراضي الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، ويغطي حوالي 35،600 كيلومتر مربع، ويضم قديماً جميع مناطق جمهورية العراق المعاصرة إضافة إلى أجزاء من جنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران، شمال شرق سوريا انفصلت عنه في العصور اللاحقة مع ولادة الدول المعاصرة بعد فترة الغزو (الاستعمار) الأوروبي.
-بعد زوال الحضارات الرافدانية القديمة ومع الاحتلال الفارسي الأخميني ثم الساساني حتى الفتح العربي الإسلامي، ظل مصطلح بلاد الرافدين «ما بين نهرين» مستعملاً بصيغة «آرام نهريم» في الآرامية القديمة (السريانية)، وظل مستعملاً من قبل رجال الدين والمتدينين اليهود المتعاملين مع كتابهم المقدّس «التوراة» ولم تستعمل صيغة «ميزوبوتاميا» الإغريقية.
هذا بخصوص بلاد الرافدين «ميزوبوتاميا»، فماذا بخصوص اسم العراق العربي وبهذا اللفظ تحديداً، ومتى ظهر هذا الاسم وما هي أقوى التفسيرات والتأويلات له؟
يعتقد كثيرون أن اسم العراق هو اسم حديث جاء به العرب المسلمون الفاتحون في القرن السابع الميلادي وهذا خطأ شائع آخر. فقد ورد اسم العراق بلفظه العربي الحالي في الشعر الجاهلي في عصر ما قبل الإسلام كثيراً. وعلى سبيل المثال يذكر سالم الآلوسي الذي خصَّ اسم العراق بكتاب عنوانه «اسم العراق: أصله ومعناه عبر العصور التاريخية» ما قاله الشاعر المتلمّس الضبعي (تـ 580 م) في هذا البيت الجميل:
والمتلمّس الضبعي هو خال الشاعر طرفة بن العبد والذي يرجّح المؤرخون أنه ولد حوالي سنة 543، وكانا شاهديْ عيان على ما كان فيه ملك الحيرة العربي في جنوب العراق، عَمرو بن المنذر، المشهور بعمرو بن هند، وأخوه قابوس، من ترف واستبداد وظلم؛ فنظما أشعاراً في هجائهما فقرر الملك الانتقام منهما بحيلة الرسالة المختومة فقُتِلَ طرفة ونجا المتلمس.
وخلال بحث سريع في المصادر والمراجع عن أمثلة أخرى وجدت هذه الأمثلة:
لعنترة بن شداد العبسي -المولود وفق بعض الروايات سنة 525م قياساً على مشاركته في حرب داحس والغبراء سنة 568م- قصيدة يذكر العراق فيها مرتين ويقول مطلعها:
تَرى عَلِمَت عُبَيلَةُ ما أُلاقي **** مِنَ الأَهوالِ في أَرضِ العِراقِ
أمّا مليح الهذلي – وربما كان المقصود أبا مليح الهذلي من عصر صدر الإسلام – فذكر العراق المُساحِل للبحر في بيت له قال:
مساحلة العراق البحر حتــى رفعنَ **** كأنمّا هن القصـــور
وهذا التاريخ – القرنان السادس والسابع بعد الميلاد – لا يعني تاريخ ولادة اسم العراق بل هو مجرد إشارة إلى أن الاسم كان متداولاً بشكل طبيعي بين العرب قبل هذا التاريخ بفترة لا يمكننا الجزم بها بدقة وقد تصل إلى عدة قرون سبقت.
تترسّخ هذه الحيثية المؤكّدة لأصالة اسم العراق باللفظ العربي الحي بالكشف المهم الذي أعلن عنه المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن رغم أن طبعته الأولى صدرت في عام 1923 وصدرت منه طبعات لاحقة لكونه مرجعاً في موضوعه، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» – مج 1 – ص 21؛. ولم يوضح باقر معنى كلمة أيرقا للأسف.
إن أوضح استعمال شاع لمصطلح العراق بدأ ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وهذا يعني أن اسم العراق الذي شاع في الشعر الجاهلي وفي لغة العرب في هذين القرنين يجد امتداده وتعبيره الصوتي/الفونولوجي القديم في هذا الكشف الممتدّة جذوره حتى عهد الملك الآشوري أورتا توكلتي في القرن الثاني عشر ق.م.
يبقى، إذاً، أقرب التفاسير الإتيمولوجية إلى الصحة لاسم العراق، إضافة إلى تفسير أولمستيد باسم إقليم «أراكيا – أرقيا»، هو الذي قال به العلامة العراقي الراحل طه باقر وبعض زملائه ومنهم الراحل هادي العلوي من أنه لفظ عربي حديث قبل الإسلام بعدة قرون لاسم أوروك السومري بقلب الهمزة عيناً والكاف قافاً ومدّ الراء بالألف وليس بالواو.
معنى ذلك أن «لفظ العراق يرجع في أصله إلى تراث لغوي قديم، وهو مأخوذ إمّا من السومريين – الذين يخضع وجودهم كشعب لجدل وتشكيك كبيرين – أو من قوم آخرين من غير السومريين كالجزيريين/ الساميين الذين استوطنوا السهل الرسوبي منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ. وإن لفظ العراق مشتقّ من كلمة تعني المواطن/ المستوطن ولفظها «أوروك» أو «أونوك»، وهي الكلمة التي سميت بها المدينة السومرية الوركاء.
وأخيراً، فإن من المؤسف حقاً، أن هذا الكشف والنظرية التفسيرية التي بنيت عليه، والتي قدّمها المؤرخ أولمستيد قبل حوالي القرن في كتابه السالف الذكر لم ينالا الاهتمام البحثي والعلمي اللازم من قبل المتخصّصين العراقيين ومن المؤسسة الأركيولوجية العراقية، فكتاب أولمستيد لم يُترجم إلى العربية حتى اليوم رغم أهميته الفائقة فيما يخصّ الحضارة الآشورية الرافدانية، رغم أن الباحث العراقي الآثاري الأشهر طه باقر قد نوَّهَ به في منتصف القرن الماضي تقريباً، والذين قرأوه بلغته الأصلية وكتبوا عنه لم يهتموا بأمر وثيقة أورتا توكلتي ويحاولوا الحصول عليها ودراستها بحثياً، وتقديمها لطلاب العلم في فروع الآثاريات بالجامعات العراقية!