| ألبر داغر
نقع على تعبيرَي «النظام السياسي المخترق»، أو «النظام الإقليمي المخترق»، في العديد من الدراسات وعناوين الكتب الصادرة عن الشرق الأوسط ودوله. والمقصود بالاختراق علاقة الخارج مع النخب المحلية.
الأدبيات
أوّل من شرح مفهوم «النظام السياسي المخترق» (penetrated political system) هو الباحث الأميركي جيمس روزينو. وذلك في معرض نقده للفصل الذي تقيمه الدراسات الأكاديمية في العلوم السياسية بين دراسة النظام الوطني ودراسة النظام الدولي. ورأى أن المختصّين في كل من هذين المجالين يتجاهلون ما يكتبه مختصّو المجال الآخر. وقد اعتبر الأنظمة المخترقة نوعاً جديداً من الأنظمة السياسية في القرن العشرين.
وهي أنظمة ليست جامدة ويمكن أن يختفي الواحد منها تبعاً للظروف. لكنها، بالمقابل، يمكن أن تكون أشكالاً دائمة من الانتظام السياسي. ويؤدّي نقص الإمكانات في هذه الدول، إن كانت اقتصادية أو عسكرية أو ناتجة من ضعف تماسك المجتمع أو كانت ذات طابع استراتيجي، الدور الأساس في إعطاء الشرعية لمشاركة غير المنتمين في تعيين خيارات المجتمع.
عند الكاتب ليون كارل براون، فإنّ المعني بالاختراق هو النظام الإقليمي برمّته. وفي كتابه الصادر عام 1984، فإن الشرق الأوسط هو المنطقة في العالم الأكثر تعرّضاً للاختراق من الخارج. وذلك منذ أن كان جزءاً من السلطنة العثمانية. واستمر الأمر على هذا النحو بعدما أصبح مكوّناً من دول مستقلة بعد الحرب العالمية الأولى. ولا يمكن، بالنسبة إليه، تفسير السياسة بشكل مناسب في مجتمع مخترق، حتى على المستوى المحلّي، من دون الأخذ بالاعتبار التأثير الذي يمارسه والدور الذي يقوم به الخارجُ القادر على التدخّل. ويحيل الباحثون النقديون دائماً إلى هذا الكتاب كمرجع.
يجد هذا النظام السياسي المخترق في الشرق الأوسط جذوره في «المسألة الشرقية». أي في عمل القوى الأوروبية على فكفكة السلطنة العثمانية خلال القرن التاسع عشر، وصولاً إلى إسقاطها في مناسبة الحرب العالمية الأولى. كانت القوى العظمى الأوروبية، المتفوقة تكنولوجياً، قد آثرت الإبقاء على السلطنة لصعوبة تقاسمها ولكي يتاح استخدامها كساحة نفوذ للجميع. ونشأت ثقافة سياسية لدى متولّي الشأن العام المحليين، سواء كانوا سلطات قائمة، كالسلطنة ذاتها، أو متولّي الحكم في مصر أو تونس، أو لاعبين أقلّ شأناً كأمراء الحرب والمتنفّذين المحليين، عنوانها الأخذ بالاعتبار في أيّ قرار يتخذونه للواقع الخارجي أو المردود الخارجي أو الدبلوماسي لقراراتهم. وكان كل عمل يأتونه، يتم في ظل التهديد الذي يجسّده الحضور الطاغي للقوى العظمى الأوروبية. وقد ذهب أحمد باي، حاكم تونس، لملاقاة نابليون الثالث في الجزائر للحصول على موافقته على مسوّدة أوّل دستور عربي كان يجري إعداده.
يقدّم الباحث الاسكتلندي الكبير ريموند هينبوش تعريفه لـ«النظام السياسي المخترق» في سياق النقاش المُشرع بين المدارس المختلفة في العلاقات الدولية. وفي حين لا ترى المدرسة الواقعية هذه العلاقات إلا بوصفها فوضى، ترى البنيوية الجديدة أن ثمّة تراتبية داخل الفوضى. وهي تراتبية تعكس الارتباط الزبائني أو الاستزلامي للدول الضعيفة بالقوى العظمى وبالدولة المسيطرة (hegemon) على وجه التحديد. ولأن التفوّق التكنولوجي يحكم علاقة القوى العظمى هذه بالدول المتخلفة، فإنه يجعل الحديث عن تكافؤ بين الطرفين كمنهجية تحليل غير ذي قيمة.
وقد ميّز الباحثون بين صنفين من الدول، تلك «التي تمشي أنظمتها في الصف» ولا تخرج عن الإملاءات الغربية في مجال السياسة الخارجية، وتلك التي تخاطر بالذهاب عكس التيار مع المخاطرة باستثارة عدوان الدولة المسيطرة ودول الغرب عليها.
شكّل طلب السلطان محمود الثاني عام 1838 من إنكلترا التدخّل لإسقاط محمد علي باشا ومشروعه نقطة تحوّل جعلت أراضي السلطنة مستباحة وساحة نفوذ للدول الأوروبية. وتم استيعاب السلطنة كاقتصاد تابع يصدّر مواد أولية زراعية إلى دول الغرب ويستدين منها. وأدّت المديونية إلى وضع الدول الأوروبية يدها على المالية العامة للسلطنة وإلى احتلال تونس ومصر من قبل فرنسا وإنكلترا لضمان استعادة الديون.
يستخدم الباحث كارل براون كلمة مرعبة لتوصيف تجربة لبنان المعاصرة. إنه «الريشة» (shuttlecock) التي يتقاذفها لاعبو رياضة الراكيت
الجمهوريات الراديكالية
لم تكن تجربة «الجمهوريات الراديكالية»، التي أنشأتها الانقلابات، مقنعةً على الصعيد الاقتصادي. وهي كانت قد اكتسبت شرعية في بداية الأمر أسهم بها «العقد الاجتماعي الشعبوي» الذي قام ووفّر للجمهور أعطيات من خلال توزيع الأرض المؤمّمة على الفلاحين، واعتماد موازنات حكومية تقوم على دعم السلع الاستهلاكية الأساسية للجمهور، واستيعاب جزء من القوى العاملة في إدارات الدولة ومؤسساتها الإنتاجية الجديدة. وقد وصف الباحثون هذا المسار بـ«الانتقالي» لأن النخب الحاكمة لم تكن قادرة على تأمين استمراره. فهي لم تُشرع سيرورة «تصنيع متأخّر» تتيح الانتقال من «استبدال الواردات» والتصنيع الخفيف إلى إنتاج السلع التكنولوجية وتعميق سيرورة التصنيع. ونقصُ الموارد جعلها تلجأ أكثر فأكثر إلى مساهمة القطاع الخاص، ممثّلاً بالتجار والمقاولين، لتحقيق استثمارات.
سوف يأتي ارتفاع أسعار البترول بعد 1973 ليوفّر لهذه الدول تدفقات مالية خارجية سهّلت الأمر عليها. وهي تدفقات جعلتها تثابر على صرف النظر عن إشراع «التصنيع المتأخّر» لأنها وفّرت موارد ريعية لتأمين استمرار الأمور على ما كانت عليه. أتاحت هذه الموارد للدولة أن تؤكد أكثر من أي وقت مضى على سيادتها. وأصبحت أكثر قدرة على منع اختراقها من القوى الخارجية. وبلغت خلال الثمانينيات الذروة في مجال بناء قدراتها الذاتية. لكن الطابع الريعي غير المنتج لهذه الاقتصادات كان لا يفتأ يتعمّق مع مرور السنوات.
ترافقت حقبة ما بعد الحرب الباردة مع:
(1) تراجع قدرة أنظمة هذه الدول على توفير تقديمات تتيح دمج المواطنين واستقطاب ولاءاتهم، وذلك بسبب اعتماد البرامج النيو-ليبرالية التي كانت تزيد ضعفها وانكشافها تجاه الداخل.
(2) تعويل هذه الأنظمة بشكل مفرط على المداخيل الريعية ذات المنشأ الخارجي وتبعيّتها الفائقة لهذه التدفقات التي كانت تزيد انكشافها تجاه الخارج.
(3) اتخاذ الخارج، ممثّلاً بدول الغرب، مواقف أكثر فأكثر عدائية تجاهها بسبب حفاظها على الخطاب المعادي للإمبريالية وإسرائيل كمصدر أساسي لشرعيتها.
لقد وفرّت هذه العناصر الثلاثة شروطاً كافية لإشراع عملية تفكيك للدولة الوطنية (state de-construction) وليس مجرد اختراقها. وذلك إمّا بالعدوان العسكري المباشر عليها، أو باستغلال النقمة الداخلية وحركات الاحتجاج على الأنظمة القائمة في مناسبة «الربيع العربي» للدفع بالأوضاع إلى مرحلة الحرب الأهلية وتفكيك الدولة. وكان القاسم المشترك في عملية تفكيك الدولة خلال العقدين الأخيرين، هو إضعاف المؤسسات الحكومية في الدول المعنيّة، وافتعال الانقسام داخلها على أسس مذهبية أو طائفية أو إثنية، وضرب سيادة الدولة على المجال الوطني.
ظهر إضعاف المؤسسات في تحوّل الدولة إلى «دولة فاشلة» وعجز مؤسساتها عن توفير الحد الأدنى من الأمان والخدمات الأساسية للمواطنين. وجاء انطلاق الانقسام الداخلي على أسس مذهبية مع نشوب الحرب الأهلية المذهبية في العراق عقب الغزو الأميركي له. وتلا ذلك إشراع تجربة جديدة من «الحرب العربية الباردة»، استخدم المتصارعون خلالها الصراع المذهبي لاكتساب الشرعية أو استعادتها والتنطّح للقيام بدور إقليمي أكبر. ولم تعد الدولة قادرة على صون وحدة أراضيها، بحيث اقتطعت القوى المعادية لها أجزاء من هذه الأراضي خرجت عن سلطة الدولة.
لقد جرى تعريف النظام السياسي المخترق بأنه ذلك الذي يتولّى فيه غير المنتمين إلى النظام السياسي الوطني تحديد الأفضليات الوطنية ومتابعة تنفيذ الأهداف. وذلك الذي تكون القرارات فيه، كائناً ما كانت، خاضعة في الوقت عينه لاعتبارات وإملاءات محلية وإقليمية ودولية. وليست السياسة الخارجية لبلد ما سوى مظهر من مظاهر وجود نظام سياسي مخترق فيه. ويتطلب تعيين درجة الاختراق فيه الذهاب أبعد من دراسة السياسة الخارجية وتبيان علاقة النخب المحلية مع الخارج.
تبلغ درجة اختراق الخارج للنظام السياسي وللمجتمع حالات قصوى حين تكون النخب مفروضة من الخارج (imposed) أو مدموجة لمصلحته (coopted) أو تابعة له (dependent). ويتيح هذا التعريف للنخب تعيين طبيعة الجسم السياسي (personnel politique) القائم ويتيح فهم طبيعة السياسات العامة (politiques publiques) في هذه الحالات. بل يمكن الوقوع على حالات حيث الخارج ينسج علاقة مباشرة مع الإدارة العامة أو أجزاء منها، بحيث يعكس أداء هذه الأخيرة خضوعها لإملاءات الخارج عليها.
يستخدم الباحث كارل براون كلمة مرعبة لتوصيف تجربة لبنان المعاصرة. إنه «الريشة» (shuttlecock) التي يتقاذفها لاعبو رياضة الراكيت. وهو عمل في بداية حياته المهنية في السفارة الأميركية في بيروت. ويقول إنه لا يمكن قراءة أحداث سنة واحدة فقط من تاريخ لبنان الحديث العاصف، من دون الأخذ بالاعتبار وجود أبعاد محلية وإقليمية ودولية في الوقت نفسه لهذه الأحداث. وقد آل إليه دور «الريشة» التعس في صراع القوى العظمى على النفوذ في الشرق الأوسط. وقال إن الاحتمال الأرجح هو أن يحتفظ بدور «الريشة» هذا ضمن إطار «المسألة الشرقية» بصيغتها المعاصرة.
لعل المؤرخ الكبير الدكتور كمال الصليبي هو الأوضح، في كتابَيه لعامَي 1976 و1989، في تعريف تجربة لبنان. فهو وصف اندفاع النخبة في لبنان إلى الحرب عام 1975 كتعبير عن «الحرب العربية الباردة»، التي كانت هي نفسها جزءاً من «الحرب الباردة» على المستوى الدولي. ومنعت الوصاية السورية بعد 1990 أن يتخذ الانقسام داخل النخبة طابعاً مفتوحاً. واتخذ هذا الانقسام طابعاً متفجّراً بعد 2005. ولبنان منذ ذلك التاريخ في قلب تجربة جديدة لافتعال الانقسام الداخلي وتنفيذ أجندات إقليمية.