بين تسارع التضخم وزيادة القدرة التنافسية
خسرت العملة الأوروبية منذ مطلع العام الجاري ما لا يقل عن 12% من قيمتها، ما أثر على مجموع المبادلات التجارية الخارجية للتكتل القاري. ووفق بيانات مكتب “يوروستات” فإن نصف واردات منطقة اليورو تتم بالدولار مقابل 40% بالعملة الموحدة. ويذكر أن فواتير مواد الطاقة كالبترول والغاز تتم بالدولار أساسا، وهي مواد زادت تكلفتها على خلفية الحرب في أوكرانيا. وهذا معناه أن مزيدا من المواد المستوردة فقدت قدرتها التنافسية في السوق الأوروبية، ما يساهم في رفع مستويات التضخم. وبالتالي فإن تكاليف المنتجات الأوروبية ستزداد، خصوصا تلك التي تعتمد على الطاقة والمواد الخام المستوردة. غير أن هناك منتجات أخرى كالخدمات والصناعات التحويلية (الكيماويات، صناعة الطائرات والسيارات.. إلخ) ستستفيد حين تصديرها من تراجع اليورو، لأنها ستصبح أكثر تنافسية. وقد يؤدي تسارع مستوى التضخم بالبنك المركزي الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة بشكل أسرع. وهي خطوة قد يقدم عليها خلال شهر يوليو/ تموز الجاري في سابقة، إذا حدثت، ستكون الأولى من نوعها منذ أحد عشر عاما.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “دي ستاندارد البلجيكية” (13 يوليو) معلقة “في الماضي، كان اليورو الضعيف مفيدا في العادة للاقتصاد الأوروبي لأنه يعزز الصادرات. فالسيارات الألمانية، على سبيل المثال، أصبحت رخيصة نسبيًا في الولايات المتحدة مقارنة بالعلامات التجارية الأمريكية، وهو أمر جيد لشركات صناعة السيارات الألمانية وموظفيها. ومع ذلك، يلعب هذا التأثير الآن دورًا أقل بسبب الندرة العامة. لا تستطيع ألمانيا تصدير ما تريده من السيارات الإضافية لأنها لا تستطيع إنتاج سيارات كافية بسبب نقص أشباه الموصلات (…). اليورو الرخيص اليوم له عيوبه. ويتم تداول معظم السلع بالدولار، وهذا يعني أن على الأوروبيين دفع المزيد مقابل النفط أو فول الصويا. وهو ما يؤدي بالتالي إلى تراجع قوتهم الشرائية. وهذا هو الفرق بين الوضع الحالي وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما كان هناك أيضًا تكافؤ بين اليورو والدولار. وجدير بالذكر أيضا، أنه في ذلك الوقت، كان سعر برميل النفط عشرة دولارات فقط، لكنه الآن يكلف عشرة أضعاف ذلك”.
قوة الدولار تدفع العملات الكبرى نحو الأسفل
وصل ارتفاع الدولارإلى مستويات لم يبلغها منذ عقدين أمام الين الياباني واليوان الصيني واليورو وسط الاضطرابات الاقتصادية الناتجة عن حرب أوكرانيا وجائحة كورونا، باعتبار الدولار ملاذا آمنا للمستثمرين في مختلف أنحاء العالم. وهكذا ارتفع، مؤشر العملة الأمريكية التي تقاس قيمتها مقارنة مع ست عملات عالمية، بأكثر من 13 بالمئة منذ بداية العام الجاري. وصعد الدولار بأكثر من واحد بالمئة أمام الين ليزيد عن 139 ين للدولار لأول مرة منذ عام 1998. كما تراجع اليورو أمام الدولار، فيما هبط سعره مقابل الجنيه الإسترليني بنسبة 0.2 بالمئة مع استمرار المخاوف بشأن وضع الاقتصاد البريطاني.
موقع “ميركور. دي. إي” الألماني (التاسع من يوليو) رصد تقهقر العملة الأوروبية وكتب معلقا “في غضون عام، فقد اليورو ربع قيمته مقابل العملة الأمريكية. كما انخفضت العملة الأوروبية إلى أدنى مستوى لها في سبع سنوات مقابل اليوان الصيني. ضعف اليورو يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لأوروبا، لأنها تزيد من تكلفة الواردات من بقية أنحاء العالم. هذا يدفع نسبة التضخم إلى الأعلى ويؤدي إلى اختلال الميزان التجاري الألماني إلى المنطقة الحمراء لأن ظروف الصرف العالمية تتغير بشكل غير مواتٍ لنا”.
تداعيات مؤلمة للعدوان الروسي على أوكرانيا
تدهور آفاق الاقتصاد العالمي على ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا دفع المفوضية الأوروبية إلى خفض توقعاتها للنمو في منطقة اليورو خلال لعامين الحالي والمقبل على لتوالي إلى 2.6 بالمئة و1.6 بالمئة، مقابل 2.7 بالمئة و2.3 بالمئة كانت متوقعة حتى الآن. كما رفعت المفوضية توقعاتها لنسبة التضخم إلى 7.6 بالمئة في 2022 و4 بالمئة في 2023، مقابل 6.1 بالمئة و2.7% في التقديرات السابقة. وتبقى هذه التوقعات مؤقتة قد تتغير للأسوأ في حال قررت روسيا في الأشهر المقبلة قطع إمداداتها من الغاز إلى أوروبا بشكل نهائي. كما أن إجمالي الناتج المحلي قد ينخفض بنسبة 5.2% عام 2022 و1% خلال عام 2023، وفق آخر توقعات المفوضية بهذا الشأن في مايو/ أيار الماضي. هذا الوضع أدى بدوره إلى تراجع الأسهم الأوروبية متأثرة بزيادة التوقعات بشأن توجه مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) لرفع أسعار الفائدة مرة أخرى بعد ارتفاع حاد في معدل التضخم في الولايات المتحدة. وهكذا تصاعدت مخاوف المستثمرين من حدوث ركود اقتصادي حقيقي في أوروبا.
الأزمة الحالية أبرزت وفق الخبراء الضعف البنيوي للاقتصادات الأوروبية من حيث خلق النمو، غير أن أكبر مصدر للقلق يبقى هو أزمة الطاقة. وبهذا الصدد تابع موقع “ميركور.دي.إي” معلقا “يدفع مواطنو أوروبا الآن ثمن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها حكوماتهم على مدى العقدين الماضيين. تصحيح هذا الوضع مهمة تتطلب أجيالا وتتطلب جهدًا كبيرًا ولن يكون ذلك ممكنًا دون خسارة ملحوظة في مستوى الرفاهية. لا ينبغي لأحد أن يقع في غرام الإغراءات اللطيفة لحزب اليسار وحزب البديل من أجل ألمانيا، الذين يتظاهران بأن الحل لجميع المشاكل هو إطلاق خط الغاز الروسي نورد ستريم 2. لأن ذلك سيعني أن أوروبا ستخضع أخيرًا لإملاءات بوتين”.
الاقتصاد العالمي والألماني أمام سيناريوهات قاتمة
حذّر صندوق النقد الدولي على لسان مديرته كريستالينا غورغييفا (13 يوليو) من أن آفاق الاقتصاد العالمي تزداد “قتامة” بفعل الحرب في أوكرانيا والتضخّم السريع الذي يرافقها. وكتبت موضحة “سيكون عام 2022 صعبا، وربما يكون عام 2023 أكثر صعوبة مع زيادة مخاطر الركود (..). لقد حذرنا من أنه قد يزداد سوءا بالنظر إلى مخاطر الانحدار المحتملة. ومنذ ذلك الحين، تحققت العديد من هذه المخاطر واشتدت حدة الأزمات المتعددة التي تواجه العالم”. ويبدو بشكل واضح أن ضعف اليورو المستمر في الواقع منذ عدة أشهر هو انعكاس “للخوف من أزمة طاقة في أوروبا” وفق صحيفة “زودويتشه تسايتونغ” (13 يوليو).
صحيفة “فراكفورته ألغماينه تسايتونغ” (14 يوليو) تساءلت عما إذا كانت ألمانياستتحول من جديد إلى “رجل أوروبا المريض”، بعدما توقعت المفوضية الأوروبية 1.4% كنسبة نمو للاقتصاد الألماني العام الحالي و1.4% العام المقبل وهي أضعف نسبة نمو في منطقة اليورو. “ونظرًا لاعتماد ألمانيا الكبير على الغاز الروسي، فإن المخاطر الاقتصادية لألمانيا أعلى أيضًا من المتوسط من حيث مخاطر تعليق الإمدادات الروسية، ما سيؤثر على الصناعة الألمانية بشكل أقوى بكثير من الاتحاد الأوروبي في المتوسط، مقارنة مع باقي البلدان الأوروبية”.