لم تكن خطوته الأولى من نار كما أنها لم تكن هينة، لكنه أرادها أن تكون «قصة حب» للنشر، يزين صفحتها الأولى بإهداء مختلف يهديها لعينيها لتكون قارئتها الوحيدة التي ينتظر لقاءها في هذا الفضاء الرحب, كما انتظرها سابقاً سنوات طويلة بمشاعر ممزوجة بالخوف والأمان والشغف، فاتحاً الباب لاحتمالات عديدة لأول لقاء يجمع حبيبين أعطيا حبهما عن بعد ما يستحق في «حياة» صعبة قاسية أقل ما يمكن ذكره وأصعب ما يمكن أن يتحمل عقل وقلب أم فقدت أطفالها الثلاثة وزوجها ولم تجد مأوى لها سوى حديقة تتشاركها مع ثكالى حرب مثلها، يقول الأديب والزميل رياض طبره تحت عنوان «رسائل العاصي بن هدلة»: ما بال هذا القلم يتوانى عن الجريان على صفحة من فراغ، جريان المشهد في ثغر عاشق؟ كما يتمنى صاحبه ويريد، أليس اليوم موعده؟ ولكن كيف السبيل إلى إقناعه لجدوى الكتابة وقد صارت الحروف جمرات والكلمات خناجر مسمومة، في زمن تردى فيه كل شيء، إلا عطر الشهادة ظل باسقاً يروي ظمأ الثرى لطهر الأوفياء.
ويسير طبره في «طريق من نار» يتلفت يميناً ويساراً يقتنص الحوادث والحكايات والذكريات ويقلب الصخور وينكش بأظافره ما خبأته من عفن، يقول في القصة ذاتها: يكاد ينفطر قلبه على صور تلك المدينة بعدما تناوب على خرابها المغول والتتار وعاث مفسدوا الأرض في شوارعها وأسكنوا الموت في بيوتها عروا صدرها، مزقوا خمارها انتقاماً من رقصات صباياها على ضفاف النهر.
لكنه لا يلبث أن يجد ما يريح النفس من «سماحة المقتدر»، يقول: مسعود الذي تربص بقاتل أخيه، وقف نهاراته على النوم ولياليه على السهر، تبدلت ملامحه حتى لو قدر لك أن تراه لحسبته في الأربعين من عمره، مع أنه لم يتم العشرين.. لكن القدر يجمعه لاحقاً بغريمه ويصفح عنه ويتركه يذهب بحال سبيله.
يعتمد طبره في مجموعته على شخصيات موصوفة نفسياً واجتماعياً وجسدياً أي لا يكتفي بذكرها فقط غائبةً أو حاضرةً، لنقرأ كيف وصف ليلى في قصته « يبحث عن عنوان»، يقول: كانت ليلى أرجوحة الوقت فوق هضاب الشوق والحنين لطفولة لم يعد عبد الباري يأبه لشظفها وقساوة مفرداتها.. ضحكتها رقصة غجرية على مسرح التشهي، وفي صدرها ربا الغوطتين ونشيد يحفز خلايا الأصغرين.
وهاهو يصف المارد الذي دخل محل الحلاق فارس فجأة، فيقول: كان شعره الأشعث أول ما أثار انتباه الحلاق وكانت ثيابه زاخرة بالعفونة, أما لحيته الكثة فقد بعثت برسالة خطيرة، لكن الشاربين المنتشرين بفوضى عارمة وغير خلاقة فقد أراحت الحلاق وأبعدت عن ذهنه أن يكون مستهدفاً منهم، إلى قوله: ملأ الرجل كرسي الحلاقة وفاض منه على أطرافه الشيء غير القليل وعلى فارس أن يتدبر الآن حلاقة هذا الرأس الذي يبدو أن شعر صاحبه لم ينعم بقطرة ماء منذ زمن بعيد ولا بمرور مقص حلاق منذ الولادة.
يتكفل رياض طبره بدور الراوي حيناً ويتخلى عنه حيناً آخر لمصلحة أبطاله، ليتجول ويتنقل بين المدينة والريف، يسرح في سهول وجبال ويتماهى مع حارات المدينة، فالبيئة لديه متنوعة غنية لها تأثيرها على الشخصيات والتي غالباً يصبغها بصبغتها، يقول تحت عنوان «طريق من نار»: هاأنذا على شرفة من شوق أسرح ناظري في انبساط الجبل منحدراً إلى الجنوب, متلاشياً إلى الغرب في اتحاد مع السهل كاتحاد الرأس مع الجسد وهاهي أفكاري ترافق هذا المسار..
يغلب على هذه المجموعة القصصية الحزن والكآبة من أحداث الحرب وتبعاتها وغيرها من الظروف الاجتماعية التي زادتها الحرب بلةً، فها هي سناء بطلة قصة «فسحة» تسير إلى رأس الجبل لتنهي حياتها من أب سكير وأم فاجرة، أما أمل فتحلم بحبيبها حسام قادماً على صهوة جواده سالماً غانماً من جبهة القتال، وهاهي اليوم بعد ربع قرن على زواجهما وقد أنجبا طفلين جميلين يتذكران كيف تقطع السبل بعدما أصيب وخرج من المعركة بجرح بالغ وببتر ساق, حاله حال كثير من الشباب الذين لم يتوانوا لحظة في الدفاع عن وطنهم.
ينوّع طبره في عناوينه الفرعية, فيستخدم العنوان الكلمة والعنوان الجملة سواء أكانت الاسمية أم الفعلية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: «ماعذره؟»، «العبور إلى المجهول» و«يبحث عن عنوان»، «معهد الاكتئاب المحلي»، بينما يستمر النص لصفحات ثمانٍ أو تسع، يزيد العدد قليلاً أو ينقص.
يذكر أن «طريق من نار» تضم تسع عشرة قصة وصادرة عن اتحاد الكتاب العرب وتقع في 35 صفحة من القطع الصغير.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)