ديما الخطيب
على الأديب أن يكون طبيباً نفسياً وعالماً سيكولوجياً ومصلحاً اجتماعياً وقارئ أفكار بل عرّافاً يتنبأ بالخلطة النهائية لأي تركيبة عاطفية ونفسية تمر بمحاذاة عينيه، وإلّا سيغدو مجرد نسّاج مبدع يعرف من أين تُنقد الكلمة. إنها توليفة عجيبة لسحر لا يزول ولا تردّه تعاويذ المشكّكين، فكيف حين يكون الأديب محيطاً بعدّة أنواع أدبية!
لعلّ الشاعرة سوزان ابراهيم أحد أهم هؤلاء المبدعين الذين تلتقطك عذوبة كلماتهم وقدراتهم الخيميائية على استحضار تركيبة فريدة لنصٍّ، على بساطته، تستطيع أن تشتمّه وتضمّه وتراقصه من دون تعب، فالأديبة التي غادرتنا إلى السويد منذ ما يقارب الخمس سنوات، تأسرك بمجرد النظر إلى نافذتها الإلكترونية، وتحوّلك من عابر إلى عاشق.
خاضت الأديبة المغتربة في السويد غمار الشعر سنوات، وحين شعرت باتساع جناحيها قررت خوض غمار سحرٍ آخر، فأنجزت ثلاث مجموعات قصصية، ثم حلّقت أعلى وأنتجت رواية صدرت أولاً باللغة السويدية ومن ثم بالعربية، وهي– المحررة السابقة في جريدة الثورة- حين تتحدث عن الإلهام، تُشعرك بأنه أمر خارج عن إرادتها الحرّة، لكنها تنصبُ الفِخاخ له، فتدهمها الكتابة كلما طاب لها ذلك، لتلتقطها بفضول طفلة، وتقطف ثمارها بأنامل من قلق، وتحتضنها بتوجّس أمّ، لتنتقل بها بعيداً إلى عوالم سحرية، تفصلها عن ذاتها حتى تكاد تشاهد نفسها وهي تكتب، وكأن روحها غادرتها ووقفت ليس ببعيد تنتظر أن يحررها الوحي. تعيد لملمة كلماتها وتنسجها بسنارة مخزونها الجمعي لتصبح طوع فكرها المتقد والذي يتمحور على الأغلب حول الروح الإنسانية والمرأة والوطن.
يرى الناقد التونسي محمد صالح بن عمر أن إبراهيم في شعرها: “تعتمد على ما يمكن أن نسميه إنشائية التفجّر أو التجزؤ وهذه الإنشائية تقوم على استثمار طاقة الإدهاش التي تنطوي عليها فكرة انشطار العنصر الواحد إذ استغلّتها الشاعرة في الكثير من الصور مثال ذلك قولها: “نساءٌ في امرأة، فمن أسجن، ومن أنفي! من أكرهُ منهنَ ومن أحبّ! كوني كما ينبغي، امرأة أقل”.. إصدارها الأول كان مجموعة شعرية بعنوان “لتكن مشيئة الربيع” عام /2003/، تلتها المجموعة القصصية الأولى “حين يأتي زمن الحب” في العام نفسه، ثم “امرأة صفراء ترسم بالأزرق” عام /2005/، وأصدرت بداية عام /2009/ المجموعة القصصية الثالثة “لأنني لأنك” و”كثيرة أنتِ” عام /2010/ و”أكواريل” عام /2014/ و”صرتُ الآن غابة” عام 2016. توقفتْ فترة عن كتابة الشعر، “حيث أرادت فرصةً لتبريد المسافة العاطفية والشغف بين ما أنجزت وما تنوي إنجازه: “هي فرصة لإعادة النظر فيما كتبت، وكي لا أكرر نفسي قدر المستطاع في النصوص التالية. الدّخولُ في مرحلة جديدة وفتحُ باب يقود إلى مكان غامض، يوفّران متعة الاكتشاف، متعة أن تمسح زجاج الرّؤى ومرايا الرّوح وأن تصقل سطوح الفكر بكلّ ما يتيحه المكان الجديد والثّقافة الجديدة والأشخاص الجدد الذين يدخلون دائرة الاهتمام” بعد ذلك أصدرت مجموعتها الشعرية الخامسة “بكلِّ شكٍّ مُمكن” عام 2022 عن دار دلمون الجديدة في دمشق.. وفي اللّغة الفرنسيّة صدر لها بترجمة البروفسور محمد صالح بن عمر: “قلبي الطائر” عام 2015, و”صرتُ الآن غابة” عام 2017, و”طريقٌ أبيض-قصائد سويدية” عام 2019 وصدرت جميعها عن دار نشر إديليفر في باريس.. وفي مجال الرواية أصدرت إبراهيم روايتها الأولى باللغة السويدية عام /2019/ بعنوان “عندما تنفجر الريح بجلدي” وكتب الناشر عن الرواية: “كيف تكتب حقاً عن الحرب؟ كتبت آن فرانك اليوميات، وكذلك أستريد ليندغرين، كما تشاركنا سوزان إبراهيم أعمق دواخلها في روايتها “عندما تنفجر الريح بجلدي. يوميات من دمشق” إبراهيم كاتبة وشاعرة وصحفية من حمص في سورية. في مذكراتها – يومياتها، يُسمح لنا بمتابعة الحياة اليومية لسورية في العامين الأولين من الحرب عليها”. وكتب عنها الشاعر السويدي “راغنر سترومبيرغ”: “أوقفتُ تشغيل الراديو واستأنفت قراءة “عندما تنفجر الريح بجلدي” للصحفية والشاعرة السورية الحساسة سوزان إبراهيم ويومياتها المؤثرة من دمشق خلال سنتي الحرب الأوليين 2011-2012. في اليوميات، تصف إبراهيم الأحداث عبر نثر شفاف، عاطفي ومريح. يأخذ النثر عالي القيمة فنياً، وبترجمة جديرة بالتقدير من قبل آنا يانسون، القارئ عبر دوائر نزول طويلة لا ترحم إلى الجحيم، إلى عالم ممتلئ بالأنقاض، شارعاً شارعاً، بيتاً بيتاً. يصبح الجيران مُخبرين، ويتم اختطاف الشباب والعثور عليهم مشوّهين، كل ذلك مع قعقعة جافة ومكثفة من الأسلحة الآلية كخلفية وموسيقا تصويرية”.
في نهاية عام 2021 صدرت هذه الرواية باللغة العربية بعنوان “لا حمام فوق المدينة” عن دار روافد المصرية، وفي تونس كتب رئيس تحرير “فاست برِس” أبو لبابة العيدودي عنها: ” أهدتني الشاعرة والروائية السورية سوزان إبراهيم آخر إصداراتها وهي رواية “لا حمام فوق المدينة” ومن أول وهلة ضاعفت من انتباهي على اعتبار أن العنوان مخيف ومثقل بالوجع، في هذه اليوميات عن الحرب السورية 2011-2012 استطاعت سوزان ابراهيم أن تسيطر على لغتها فهي فائقة التصوير والبلاغة بأسلوب سهل ممتنع وهذا في حد ذاته إبداع، لقد أوصلت لنا صور الحرب -وكأننا عشناها- جراح وعذابات وانكسارات ومحن وخوف ووجع، حرقة وأسئلة مبهمة وأفقٌ غامض، كل سطور الرواية مفعمة باللغة الجميلة مع بيان وبلاغة نادرة، سوزان إبراهيم أعدها روائية الشعراء، وشاعرة الروائيين، أقول “برافو” وأحسنتِ، لقد صورتِ لنا الحرب في أدق تفاصيلها حتى لكأنني أشاهد فيلماً وثائقياً صوتاً وصورة متوّجاً بالإبداع”.
عن روايتها الأخيرة تقول إبراهيم: “في 273 صفحة وعبر أربعة فصول تحكي الرواية بأصوات متعددة.. صلاح، أبو ليلى، نزار، الياس، زكريا، مها وآخرين ما جرى خلال عامي 2011-2012. الجميع في هذه الرواية شهود عيان في المكان والزمان المحددين حيث وقعت أحداث كثيرة غيّرت مرة واحدة وإلى الأبد ما اعتاده السوريون في الحياة قبل اندلاع أول شرارة للحرب. إنها الحياة في حدائق الخوف الخلفية للحرب حيث الأشخاص حقيقيون وليسوا مجرد أرقام وأخبار عاجلة. هذه رواية الحرب بكل ما فيها من آلامٍ، وأحداث مخيفة ومصائر مجهولة ونزوح وتهجير ودماء وكوابيس ونهايات غير مكتملة لكثير من شخوص الرواية الحقيقيين”.
ونحن نقول لها من سورية إننا في شوق وانتظار حميمين لقراءة روايتك الجديدة.
( سيرياهوم نيوز-تشرين 18-7-2022 )