| كوكب معلوف
للمرة الثالثة والسبعين، يحيي القوميون الاجتماعيون ذكرى اغتيال أنطون سعادة، والذي تمّ على رمل بيروت، وللمرة الثالثة والسبعين يجمعون في تلاقيهم الوجداني على رفض اعتباره جسداً يدفن في حفرة لأنهم دأبوا على ترداد قول سعيد تقي الدين أن «رفوش الدنيا لن تطمر تلك الحفرة». كما دأبوا على ارتفاع صلواتهم وأدعيتهم مع الكاهن برباري الذي عرّفه ليتمنوا معه لو خبأوه «بين وريقات إنجيله». وتدمع أعينهم مع فايز خضور وهو يقول «هي ذي عنقي تتدلى… عندما حاكموه كأن شعباً يساق إلى المقصلة». وكانت قلوبهم تتلوى ألماً ووجعاً على حرقة قلبه لرفضهم السماح له بوداع عائلته والعذاب الذي عانته الأمينة الأولى جوليات المير وبناتها.
إنه العشق الذي يحمله القوميون الاجتماعيون لزعيمهم ومؤسس حزبهم والمفكر وعالم الاجتماع والفيلسوف الذي أُخذ منهم على غفلة عين وأختها، بخديعة موصوفة ومن ظلامية واضحة. حيث اعتقل وسلّم إلى النظام اللبناني، وأعدم من دون محاكمة وخلال أربع وعشرين ساعة، في جريمة وصفت بأنها مأساة قانونية، وبحجة قيامه بثورة ضد النظام الذي صنعه الانتداب.
إعدامه المتخذ قراره سلفاً، ومن دون محاكمة فعلية، كان موقّعاً من أركان الدولة الثلاثة، رئيس الجمهورية بشارة الخوري، والحكومة رياض الصلح، ووزير الدفاع مجيد إرسلان، وكان تابوته الخشبي معداً أمام ناظريه. همّهم كان الانتهاء فوراً من مراسم إعدامه. أمّا ثورته المحقة وبرنامجها الإصلاحي، فبقيت من دون تحقيق لأي من بنودها؛ فلا العدالة للعمّال والفلاحين تحقّقت ولا يزال الفساد والهدر، بل ازداد، في إدارة الدولة، كما بقيت الطائفية أبرز علله بعدما أضيف إليها عنوان المحاصصة والتوافق. أمّا عن عنوانه الإصلاحي الوحدوي، فالفرقة والكيانية باتت من أكبر مخاطر الوحدة السياسية والاقتصادية بعدما وصلت الأمور إلى خيار تقسيم المقسم، لبلاد نالت منها المؤامرات والحروب. وبات حلماً بعيداً نشوءُ مشروع للتواصل الاقتصادي المشرقي أو للدفاع المشترك في ما بين هذه الكيانات لمواجهة الخطر الصهيوني الذي يزداد حدة بعد تطبيع مخزٍ من الدول الخليجية والأردن ومصر، وبعدما ترك الكيانان الممانعان، لبنان والشام، لوحدهما ولمصيرهما المأزوم اقتصادياً في مواجهة الحصار بـ«قانون قيصر» الأميركي.
هنا لا بد لنا من قراءة موقف سعادة ورأيه الرافض لاتفاق الهدنة مع اليهود ودعوته لاستمرار المقاومة، وهو كان أوّل قائد لحركة فكرية سياسية تعلن موقفها الصدامي والمواجه لنكبة فلسطين متهماً الأنظمة العربية بالتواطؤ والغرب بالتآمر. كان خطابه عام 1949 في برج البراجنة واحداً من أبلغ الردود على بن غوريون وتهديداته، عندما قال إنه يخرّج ضباطاً عسكريين وأن الدولة السورية (يقصد الحزب) تخرّج أيضاً ضباطاً عسكريين.
علماً أن هذه السلطة عينها حاولت تشويه سمعة الحزب واتهام زعيمه بالتواصل مع الصهاينة في افتئات وتزوير سرعان ما اندثر لأن بصمات القوميين كانت ظاهرة في المواجهة المصيرية وفي المعارك التي خاضوها، حتى في مواقعهم العسكرية في جيوش الأنظمة العربية، أبرزهم الضابط الكبير غسان جديد، الضابط في الجيش الشامي والذي خاض مواجهات كبرى مع جيوش الانتداب البريطاني ومنظمات الصهاينة، وأصبح لاحقاً عميد الدفاع في الحزب. وكل ذلك استناداً إلى مقولة سعادة أن صراعنا مع اليهود هو صراع الحديد والنار.
في ترجمته لإدراكه أطماع الأعداء في بلاده يقول عن الصهيونية إنها خطة نظامية، وأن حزبه هو القوة النظامية التي تواجه هذه الحركة المعادية، لذا كان شعار حزبه، وأحد أبرز بنوده الأربعة، القوة بعد الحرّية والواجب والنظام، ولذا كانت مطالبته أن يكون للأمّة جيشها القوي، ليدعم حق أمّته بالنهوض والدفاع عن نفسها وكذلك البقاء، «القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره».
لم يفصل سعادة بينه وبين القوميين، الذين أرادهم القوة المعاكسة، ففي قسمه للزعامة أعلن أنه يقف نفسه على أمّته، وهو اعتبر نفسه جندياً في هذه النهضة وقدوة في العمل والانضباط حتى… الاستشهاد. حياته القصيرة، انتهت على عمر الخامسة والأربعين عاماً، قضاها في النضال الدؤوب وفي حياة من التقشف والزهد والانضباط، إن في المغترب القسري حيث اضطرته ظروف الابتعاد عن الوطن ثم العودة عام 47، معلناً من المطار ضرورة عودة القوميين إلى الجهاد، بعد نيلهم الاستقلال عام 43 والذي اعتبره غير ناجز، فقال لهم خرجتم من الزنازين الصغيرة إلى السجن الكبير، وهو يقصد أمّة مقسمة طائفياً وكيانياً، وهنا استعرت المواجهة مع السلطة السياسية اللبنانية وعظمت مكائدها مع أحزابها الطائفية الداعمة لهذا النظام، من دون أية نية لأي حوار، وكان لا بد من ثورة تعيد إنشاء النظام السياسي على أساس من الحرية والعدالة والمساواة، نظام يكون نطاق ضمان للفكر الحر وليس نظاماً للطوائف.
هكذا كان اغتياله إعداماً على أيدي النظام السياسي اللبناني بعدما رفض أن يظهر أي مظاهر من الضعف، إن في المحاكمة التي استمرت ساعات طويلة من دون محام يدافع عنه، بل دافع ورافع بنفسه عن نفسه، أو عندما اقتيد إلى الإعدام، رافضاً الظهور بأي مشهد من الضعف بل بكل شجاعة وبأس. طلبٌ واحد كان يريده منهم ولم يحققوه له، ألا وهو وداع زوجته وأطفاله.
هذا السلوك الفدائي القدوة، كان ميراثاً رائعاً لحزبه ورفقائه، وهكذا كانت روحية المقاومة بافتداء الأمّة، وكان هذا هو أساس نهج الأجساد المتفجرة الذي وعد به عميد المقاومة محمد سليم، العدوَّ الصهيوني بعد اجتياحه لبنان وصولاً إلى بيروت، فقد قال إن الحزب لا يملك الدبابات ولا الأسلحة الثقيلة ولكن أجساد القوميين المتفجرة ستكسر جبروت وتفوق سلاح العدو. وكانت عبارة «أنا الشهيد» عن سابق الإصرار من الشهيد وجدي الصايغ وسناء محيدلي وأمثالهما، هي إشارة انطلاق الهزيمة لدحر العدو وجلائه عن لبنان وصولاً إلى عمليات عديدة من نهاريا إلى الجليل الفلسطيني. سعادة القدوة دوماً أيضاً أمام القوميين الاجتماعيين نسور الزوبعة عن مواجهتهم لإرهاب العالم التكفيري في الشام، وفي كل بقعة من أرض الأمة.
إنه نهج الفداء التموزي الذي أصبح نهجاً لأمّة لن تهزم ولن يكون القبر مكاناً لها تحت الشمس.
العبرة أنه ما أشبه ظروف بلادنا اليوم بالأمس، وبين رفض سعادة التوقيع على اتفاقية التابلاين وبين التنازل اليوم عن ثرواتنا بالنفط والغاز. رغم كل الضغوطات ليس أمامنا إلا وقفات العز التي علمنا سعادة أن يصنعها لأمته.