| محمد منصور
تضع موسكو أمام ناظريها حقيقة، مفادها أن الوضع التكتيكي بالنسبة إلى البحرية الأميركية في البحار المتعددة، يبدو أفضل كثيراً من الوضع الروسي، وخصوصاً قيام واشنطن بإعادة تفعيل “الأسطول الثاني”، بهدف التصدي للنشاطات البحرية الروسية.
أثار إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الشهر الجاري، بشأن ملامح الاستراتيجية البحرية الروسية الجديدة، وإطار عمل الأساطيل البحرية المتعددة والتابعة لسلاح البحرية الروسية، خلال المرحلة المقبلة، وذلك عبر وثيقتين قام بتوقيعهما بالتزامن مع الاحتفال بيوم القوات البحرية الروسية، موجةً كبيرة من الجدل بشأن تفاصيل هذه الاستراتيجية، ومدى ارتباطها بالأوضاع الدولية الحالية في أوكرانيا ومضيق تايوان.
وعلى الرغم من عدم احتواء هذه الاستراتيجية – بصورة عامة – على أي بنود مفاجئة أو متباينة عن الإطار الاستراتيجي، الذي كانت البحرية الروسية تعمل على أساسه في العقد المنصرم، فإنه يمكن القول إنها تمثل، في جوانب متعدّدة – انعكاساً لمجريات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما صاحبها من تحركات عسكرية متعددة الطبقات بين موسكو وحلف الناتو.
فالتأثيرات الميدانية والتكتيكية الناجمة عن معارك أوكرانيا – وخصوصاً الجانب البحري من هذه المعارك – ظهرت ملامحها، على نحو كبير، في معظم بنود هذه الاستراتيجية، فرأت موسكو، طبقاً لمجمل ما ورد في العقيدة البحرية الجديدة، أن التهديدات البحرية، التي تواجه الاتحاد الروسي، تتمحور حول دائرتين أساسيتين. الأولى هي الدائرة الإقليمية، والتي تشمل البحار والمضايق المتاخمة للحدود الروسية. والثانية هي دائرة إقليمية ودولية، تشمل الممرات البحرية والمسطحات التي تمثل أهمية استراتيجية – عسكرياً أو اقتصادياً – لموسكو.
الدائرة البحرية الإقليمية… مزيد من التركيز على الشمال
فيما يتعلق بالدائرة البحرية الإقليمية، تنصّ الاستراتيجية الروسية الجديدة على أن توسيع البنية التحتية العسكرية لحلف الناتو – بما في ذلك البنية التحتية الخاصة بالتسليح البحري – قرب الحدود والسواحل الروسية، يُعَدّ تهديداً عسكرياً رئيساً لسلاح البحرية الروسية، ويمثل عنصراً حاسماً يجب وضعه في الاعتبار خلال رسم موسكو الحدودَ الجديدة لعلاقاتها بالحلف.
بطبيعة الحال – وبالنظر إلى الوضع الحالي في أوكرانيا – لا يمثل هذا البند مفاجأة كبيرة، فواقع الحال أن موسكو بدأت، منذ أعوام، اتخاذ إجراءات وتدابير متعددة المستويات، للتعامل مع الآثار الممتدة – في الجانبين الجيوسياسي والاستراتيجي – لانهيار الاتحاد السوفياتي، والتي كان تمدد حلف الناتو عسكرياً نحو التخوم الروسية أحد أبرز هذه الآثار.
اللافت في هذا الصدد أن نصّ العقيدة البحرية الروسية الجديدة يتضمن تكثيف الوجود البحري، وتنويعه في عدة مناطق، تمّ ذكر بعضها، بصورة محددة، وهي تحديداً المفاصل الاستراتيجية في منطقة القطب الشمالي. وهذا يمكن اعتباره بمثابة إعلان مفاده أن هذه المنطقة تتبوّأ رأس الأولويات البحرية الروسية خلال المدى المنظور.
مناطق القطب الشمالي، والتي تضمّنها نص العقيدة البحرية الروسية الجديدة، شملت أرخبيل “نوفايا زيمليا”، وأرخبيل “جوزيف لاند” الواقع شماليَّه، إلى جانب جزيرة “رانجل” القريبة جداً من الولايات المتحدة الأميركية، وأرخبيل “سبيتسبيرجين”، الذي تطلق عليه النرويج اسم “سفالبارد”، ويُعَدّ نقطة حدودية فاصلة بين الأراضي النرويجية والأراضي الروسية في القطب الشمالي.
سبق أن كان هذا الأرخبيل، وتحديداً الجزيرة الأساسية فيه والمسمّاة “سبيتسبيرجين”، محل عدة نزاعات اقتصادية ودبلوماسية بين الجانبين منذ القرن السادس عشر، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق التعدين والصيد. وظلت هذه النزاعات مستمرة على الرغم من توقيع الجانبين معاهدة “سفالبارد” عام 1925، والتي أقرت سيادة النرويج على هذا الأرخبيل، مع إعطاء عدة دول – من بينها روسيا – حق دخول جزر هذا الأرخبيل، واستغلال مواردها بالمشاركة مع النرويج.
جدير بالذكر أن النزاع بشأن هذا الأرخبيل عاد خلال الأعوام الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2017، بعد أن حذرت موسكو حلف الناتو من محاولات تغيير الواقع الحالي للأرخبيل.
يُضاف إلى ذلك قيام السلطات النرويجية مؤخراً بمنع عبور شاحنات نقل البضائع إلى البلدات الروسية الموجودة في جزر الأرخبيل، وتحديداً جزيرة “سبيتسبيرجين”، وهو ما فتح باب الجدل مرة أخرى بشأن تبعية هذه الجزر، وخصوصاً في ظل وجود بعض الآراء – وخصوصاً الأوروبية – التي ترى أن مدة معاهدة “سفالبارد” انتهت بعد مرور 100 عام على توقيعها، وهو ما تم الرد عليه من جانب روسيا بأنها قد تطالب بإعادة النظر في اعترافها بملكية النرويج لهذه الجزر.
الإصرار الروسي على تأمين وجوده في هذا الأرخبيل يرجع إلى إطلالة القسم الجنوبي منه، وتحديداً جزيرة “بير”، على الممر الأساسي لتحرك الغواصات النووية الروسية التابعة لأسطول بحر الشمال، نحو المحيط الأطلسي.
التركيز الروسي الواضح على منطقة القطب الشمالي، في الاستراتيجية البحرية الجديدة، لا يُعَدّ وليد الظروف المستجدة حالياً على المستوى الدولي، بل كان وليد ملاحظة موسكو بَدءَ الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو تعزيزَ وجودهما عسكرياً في هذا النطاق، منذ أوائل العقد الماضي. لذا، دشّنت موسكو عام 2014 مركز قيادة استراتيجياً مخصّصاً لإدارة الوجود العسكري الروسي في القطب الشمالي، وبدأت تقييم حالة المنشآت العسكرية التابعة لها في هذا النطاق، من أجل تحديثها وإدامة تمركز أسلحة نوعية فيها. وسرّعت موسكو هذه العملية، بصورة واضحة، أوائل العام الماضي.
النقطة الأساسية في عمليات إعادة التأهيل العسكري هذه هي تركيزها، في صورة واضحة، على المناطق التي ورد ذكرها في الاستراتيجية البحرية الروسية الجديدة. فأرخبيل “نوفايا زيمليا”، مثلاً، تلقّى العام الماضي تعزيزات جوية نوعية، تمثّلت بوصول 4 مقاتلات اعتراضية من نوع “ميغ – 31” إلى قاعدة “روجاتشيفو” الجوية، التي تقع في هذا الأرخبيل، لتضاف إلى طائرات أخرى ومروحيات مخصَّصة لمهمّات النقل والدوريات البحرية، تتمركز بصورة دائمة داخل هذه القاعدة، التي تضم أيضاً بطاريات منظومة “أس-400” للدفاع الجوي البعيد المدى داخل المطار.
جزيرة “رانجل”، التي تقع على بعد 400 كيلومتر عن ألاسكا، تُعَدّ أيضاً من النقاط الأساسية في العقيدة الروسية الجديدة. وسبق أن أعلنت موسكو، عام 2014، خطة لإنشاء قواعد عسكرية دائمة في هذه الجزيرة، بما في ذلك قاعدة بحرية، وهو ما قد يتم تفعيله بصورة أكبر خلال المدى المنظور، وخصوصاً أن قوات الدفاع الجوي الروسية نشرت بالفعل في الجزيرة، عام 2016، منظومة “سوبكا-2” للرصد الراداري البعيد المدى.
أرخبيل “جوزيف لاند” بدوره كان ضمن اهتمامات موسكو منذ عام 2012، حين قررت القوات الجوية الروسية إعادة فتح مطار “غراهام بيل” العسكري، والواقع في هذا الأرخبيل، بالتزامن مع افتتاح قاعدة عسكرية جديدة يمكن أن يتمركز داخلها 150 جندياً. وزار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عام 2017، هذه المنشآت التي احتضنت بعد ذلك، عام 2020، وحدات المظلات الروسية التي نفّذت تدريبات على القفز المظلي من ارتفاعات شاهقة.
هذه المناطق، السالف ذكرها، لا تُعَدّ، في الذهنية العسكرية الروسية، الوحيدة التي لها أهمية استراتيجية في القطب الشمالي، بحيث تُضاف إليها مناطق أخرى، أهمها جزيرة “ألكسندرا” الواقعة شمالي شرقي بحر بارنتس، وتضم قاعدة “ناغورسكوي” الجوية، وجزيرة “كوتيلني” التي تضم مطار “تيمب” العسكري، ومواقع تمركز بطاريات الصواريخ المضادة للقطع البحرية من نوع “باستيون”.
هذا إلى جانب مواضع تمركز أسطول بحر الشمال في شبه جزيرة “كولا”، بحيث خضعت المنشآت البحرية في شبه الجزيرة لعمليات تحديث مكثَّفة خلال الأعوام الأخيرة، بما في ذلك توسيع قاعدة “جادجييفو” للغواصات، والمرافق التابعة لأسطول الشمال الروسي في خليج “أوكولنايا” ومنطقة “بولشوي”، وقاعدة “سيفرومورسك -1” الجوية، ناهيك باحتضان شبه الجزيرة موقع اختبار الصواريخ الاستراتيجية الروسية، والمسمى “بليستيك”.
مناطق أخرى في الذهنية البحرية الروسية
تضمنت العقيدة البحرية الروسية الجديدة، أيضاً، الإشارة إلى بحر البلطيق والبحر الأسود وبحر آزوف وجزر الكوريل وشرقي البحر المتوسط، كمرتكزات أساسية لضمان الأمن البحري الروسي، ضمن الدائرة الإقليمية التي دخل القطب الشمالي في إطارها، كما سبق ذكره.
هذه المناطق، وإن كانت متضمَّنة في النسخ السابقة من العقيدة البحرية الروسية، وخصوصاً النسخة الصادرة عام 2001، إلّا أن وضعها الحالي، في ضوء العمليات في أوكرانيا، والتوتر الذي يشوب منطقة البلطيق، يجعل من الضروري النظر إلى هذا الملف من زاوية أخرى.
حقيقة الأمر أن هذه النطاقات الجغرافية تشهد حالياً توتراً بين موسكو وأطراف محسوبة على الجانب الغربي. فجزر الكوريل، التي تضم نحو 56 جزيرة، وتمتد على مسافة 1200 كيلومتر، تربط بين الطرف الجنوبي لشبه جزيرة “كامتشاتكا” الروسية والطرف الشمالي الشرقي لجزيرة “هوكايدو” اليابانية، وتشكل فاصلاً طبيعياً بين بحر “أوخوتسك” الروسي والمحيط الهادئ.
تتنازع موسكو وبكين على ملكية 14 جزيرة من هذه الجزر، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتَجدَّدَ هذا النزاع بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بعد إعلان موسكو الانسحاب من مباحثات السلام مع اليابان بشأن هذه الجزر، احتجاجاً على ردود الفعل اليابانية على التطورات في أوكرانيا، وعلى التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الياباني الحالي، فوميو كيشيدا، في آذار/مارس الماضي، وأكد فيها أن الجزر الأربع هي جزء لا يتجزأ من الأراضي اليابانية.
أهمية هذه الجزر لموسكو كانت سبباً رئيساً في إعادة تفعيل “الفرقة الثامنة عشرة”، وهي القوة العسكرية الروسية الأساسية التي تتمركز في جزر “أيتوروب” و”كوناشير” و”سيكوتان”. وتلقّت هذه الفرقة مزيداً من الجنود والعتاد ووحدات الدفاع الجوي والدفاع الساحلي منذ عام 2011، بحيث وصل إلى جزيرتي “كوناشير” و”إيتوروب” عام 2016، وحدات الدفاع الساحلي الصاروخية، من نوعي “باستيون” و”بال”، بالتزامن مع تأسيس أسطول المحيط الهادئ الروسي عدةَ مرافق للصيانة والإعاشة، وخصوصاً عبر هذه المنظومات، التي تم تعزيزها أواخر عام 2021، بمنظومات إضافية من نوع “باستيون”، التي يصل مداها إلى 450 كيلومتراً.
على مستوى الدفاع الجوي، خدم في هذه الجزيرة، منذ عام 2016، منظومات الدفاع الجوي “تور-أم” و”بوك-أم”، وتم تعزيزها، أواخر عام 2020، ببطاريات الدفاع الجوي البعيدة المدى “أس-300 في4”.
ما سبق يُضاف إلى عمليات التحديث والإنشاء المستمرة للمواقع العسكرية الجديدة في الجزر الأربع، وهو ما أعربت طوكيو مراراً عن احتجاجها عليه، وسبق أن احتجت على قيام أسطول المحيط الهادئ الروسي بإرسال بعثة إلى جزر الكوريل الجنوبية، من أجل البحث في إمكان إنشاء قاعدة بحرية في جزيرة “ماتوا”، وهو ما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنه جارٍ بالفعل، عام 2017.
تأهيل القواعد البحرية الروسية وصيانتها وتحديثها
بحر البلطيق، الذي يضم القاعدة الرئيسة لأسطول بحر البلطيق الروسي، يتسم بأهمية خاصة على المستوى البحري بالنسبة إلى موسكو، وخصوصاً أنه يرتبط بعدة نقاط للتوتر بين روسيا والغرب، مثل احتمال انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وامتلاك السويد نقطة ارتكاز مهمة قرب قاعدة “بالتيسيك” البحرية، وهي جزيرة “جوتلاند”، ناهيك بتلويح بولندا بالعودة إلى المطالبة بالسيادة على إقليم “كالينغراد”، الذي يُعَدّ الوجود البري الوحيد لروسيا على بحر البلطيق.
قاعدة أسطول بحر البلطيق في “بالتييسك” تبقى من أهم القواعد البحرية الروسية، لكنها تُعَدّ الأضعف من حيث حجم التسليح البحري، مقارنة بالقواعد التابعة لأساطيل روسية أخرى. وبدأت موسكو، منذ عام 2020، خطة شاملة لتحديث تجهيزات هذه القاعدة وتسليحها، سواء عبر صيانة أرصفة السفن وتوسيعها، أو إعادة تأهيل ورش الصيانة والإصلاح، أو بدء بناء فرقاطات جديدة من الفئة “22800”، لإدخالها الخدمة في أسطول بحر البلطيق.
يُضاف هذا إلى إجراء البحرية الروسية تجارب على إمكان إقامة حقول ألغام بحرية ذكية، بحيث يتم نشرها في حالات الطوارئ لحماية محيط القاعدة البحرية.
البحر الأسود وبحر آزوف يمثّلان أيضاً أهمية استراتيجية كبيرة لموسكو، تزايدت بعد عملية استعادة شبه جزيرة القرم، ثم السيطرة هذا العام على كامل الساحل الأوكراني على بحر آزوف، الذي كانت موسكو تعدّه دوماً بحراً داخلياً لا يجب السماح بسيطرة أي دولة أخرى عليه.
أهمية البحر الأسود تنبع من كونه يحتضن القاعدة البحرية الأساسية لأسطول البحر الأسود في “سيباستوبول”، إلى جانب 3 قواعد بحرية أخرى في “نوفوروسيسك” و”فيدويسيا” و”تيمريوك”، وهي قواعد كانت لها أدوار أساسية في العملية العسكرية الحالية للجيش الروسي في أوكرانيا.
أهمية كِلا البحرين، بالنسبة إلى موسكو، تكمن في أن السيطرة عليهما، بصورة كاملة، تضمن تأمين قاعدة “سيباستوبول”، وتضمن حرية تحرك الأساطيل الحربية والتجارية الروسية المتجهة إلى الشرق الأوسط، وتؤمن أيضاً سلاسة نظام الملاحة النهرية الداخلية المرتبطة ببحر آزوف، وخصوصاً قناة “فولغا – دون”، التي تربط بين بحر قزوين وبحر آزوف، وما يرتبط بها من مرافئ وبنى تحتية، وخصوصاً أن هذه القناة تُعَدّ ممراً بديلاً يمكن لبعض القطع البحرية الروسية أن تستخدمه للوصول إلى البحر الأسود، في حال تعذُّر عبورها من مضيق البوسفور.
شرقي المتوسط، أو بمعنى آخر القاعدة البحرية الروسية في “طرطوس” السورية، كانت ضمن المفاصل الاستراتيجية التي تضمَّنتها العقيدة البحرية الروسية، علماً بأنها كانت ضيفاً دائماً على النسخ السابقة عن هذه العقيدة، لكن يُتوقع أن تحظى بزخم أكبر في المدى المنظور، بفعل عمليات التوسيع التي بدأتها العام الماضي، بحيث تعمل البحرية الروسية على توسيع القدرات الفنية لهذه القاعدة لتصبح بمثابة قاعدة متكاملة، عبر تزويد منشأة الإصلاح الخاصة بها برصيف عائم، بحيث يتم تفادي استقدام ورش فنية عائمة من روسيا إلى هذه القاعدة لتنفيذ الإصلاحات الجسيمة.
تضمّنت العقيدة الجديدة أيضاً، إشارة واضحة إلى معضلة عدم وجود عدد كافٍ من القواعد ونقاط التمركز البحرية المخصصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، في البحار البعيدة، وخصوصاً في البحر الأحمر، وهي نقطة مهمة، وخصوصاً أن اتفاقية إنشاء قاعدة الإمداد البحري الروسية في السودان، والتي تم توقيعها عام 2020، ما زالت خارج الإطار التنفيذي، بعد أن طلبت الخرطوم، العام الماضي، إدخال تعديلات جوهرية عليها. طرحُ هذا الملف، للمرة الأولى في العقيدة البحرية الروسية، ربما يشي بأن موسكو ستسعى خلال الأشهر المقبلة لإيجاد صيغة توافقية مع السودان، من أجل الشروع في تأسيس هذه القاعدة، وربما تسعى – في حالة تعذّر القيام بذلك – لإيجاد بديل للسودان.
هذا البند قد يعني أيضاً شروع موسكو مستقبلاً في إنشاء القواعد البحرية التي كانت تعتزم تأسيسها في جزر “الكوريل” وجزيرة “رانجل”، بالإضافة إلى اتفاقيات “محتملة” لإنشاء قواعد بحرية في منطقتي أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية، وخصوصاً في دول مثل فنزويلا ونيكاراغوا. وهذه الأخيرة، بالتحديد، تُعَدّ خياراً مفضَّلاً لموسكو، بحيث كانت روسيا ضمن الدول التي تضمنها قرار حكومة نيكاراغوا أواخر عام 2013، والذي أجاز لمجموعة من الدول، بينها كوبا والمكسيك وفنزويلا، إرسال وحداتها الجوية والبحرية لزيارة نيكاراغوا. ووقّع الجانبان، عام 2015، اتفاقية تسمح بدخول القطع البحرية الروسية لموانئ البلاد، واتفاقية أخرى تم بموجبها تأسيس عدة منشآت عسكرية روسية في أراضي نيكاراغوا.
التسليح البحري… دفعة كبيرة إلى الأمام
لم يغب الجانب التسليحي عن العقيدة البحرية الروسية الجديدة، بحيث نصّت على ضرورة العمل على تكثيف القدرات العملياتية للبحرية الروسية، عبر رفع القدرات القتالية، وتطوير مرافق الإنتاج لبناء حاملات الطائرات والسفن العالية التقنية، وذات الإزاحة الكبيرة.
عدم وجود أي حاملة طائرات عاملة حالياً في البحرية الروسية – في ظل عمليات التحديث المتعثرة لحاملة الطائرات الروسية الوحيدة “الأدميرال كوزينتسوف” – جعل وزارة الدفاع الروسية تبدأ، منذ عام 2016، دراسة عدة تصاميم لحاملات طائرات نووية جديدة، من بينها مشروع حاملة الطائرات “شتورم”، التي تبلغ إزاحتها 80 ألف طن، ومشروع “فاران”، الذي يتضمن بناء حاملة طائرات قادرة على تشغيل مقاتلات الجيل الخامس، “باك فا – 50”. ويُتوقَّع أن تحفّز العقيدة البحرية الجديدة القيادة العسكرية الروسية على بدء تنفيذ أحد هذه المشاريع قبل نهاية العام الجاري.
تعمل موسكو أيضاً، منذ عام 2015، على برنامجها الخاص بإنتاج سفن للهجوم البرمائي، حاملة للمروحيات، تحت اسم “بريبوي”، بحيث تم إدراج مشروع تصنيع سفينتين من هذا النوع تحت اسم “إيفان روغوف” و”متروفان موسكالينكو”، ضمن البرنامج الحكومي للتسلح، والممتد بين عامي 2018 و2025. وبدأت عمليات بنائهما بالفعل في شبه جزيرة القرم عام 2018، ويُتوقَّع أن تدخلا الخدمة خلال العامين المقبلين، لتمثّلا في ذلك الظهور الأول لسفن الهجوم البرمائي الحاملة للمروحيات في البحرية الروسية.
يُضاف إلى ما سبق احتواء خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال الاحتفال بيوم البحرية الروسية، على إشارة لافتة إلى منظومة الصواريخ فوق الصوتية، “تسيركون”، بحيث ذكر أن دخولها الخدمة سيتم رسمياً خلال الأشهر المقبلة، علماً بأن كل الاختبارات الخاصة بهذا النوع من الصواريخ تم إتمامها في آب/أغسطس 2021، وكانت فرقاطة “الأدميرال جورشكوف”، من الفئة “22350”، هي منصة هذه الاختبارات، نظراً إلى أنها تتسلح بـ 16 خلية إطلاق صاروخية عمودية. وستكون هذه الفرقاطة هي أول قطعة بحرية روسية تتزود بهذا النوع من الصواريخ.
تُعَدّ صواريخ “تسيركون” بمثابة نقلة ضخمة في عالم التسليح البحري، نظراً إلى خصائصها الفريدة على مستوى المدى والدقة وطريقة التحليق. وهذا ظهر خلال التجربة التي تمت على إطلاقه في تشرين الأول/أكتوبر 2020، بحيث تمكن من قطع مسافة تبلغ 450 كيلومتراً في زمن قدره 4 دقائق ونصف دقيقة فقط، وهو ما لا يتيح للدفاعات المعادية سوى أجزاء من الثانية للتصدي له، بحيث تصل سرعته القصوى إلى 9 أضعاف سرعة الصوت، ناهيك بأنه حلق خلال هذه التجربة على ارتفاع 28 كيلومتراً. وتشير التقديرات إلى أنَّ مدى هذا الصاروخ يصل إلى 1000 كيلومتر، وسقف تحليقه الأقصى يتراوح بين 35 و40 كيلومتراً.
جدير بالذكر أن إعلان العقيدة البحرية الروسية الجديدة تزامن مع تسلّم البحرية الروسية، خلال الأسابيع الماضية، الغواصة النووية “بيلغورود”، التي تُعَدّ القطعة البحرية الأولى التي تتسلح بالطوربيد النووي البعيد المدى، “بوسايدون”، بحيث تمتلك القدرة على حمل 6 طوربيدات من هذا النوع، الذي لا يمتلك حلف الناتو عملياً أي قدرة على اعتراضه أو إيقافه. الإعلان الأول بشأن هذا الطوربيد كان على لسان الرئيس الروسي، في تموز/يوليو 2018، وهو يتميز بمداه البالغ 10 آلاف كيلومتر، وسرعته الكبيرة البالغة 200 كيلومتر في الساعة (ملاحظة مهمة: أظن أن الرقم خطأ، فبعض السيارات أسرع)، وقدرة رأسه المتفجر، والتي تصل إلى 2 ميغاطن، والذي يستطيع إحداث صدمة انفجارية، تتسبب بهزّات أرضية، تنتج منها موجات تسونامي كبيرة. المفارقة هنا أن التجربة الأساسية على هذا الطوربيد تمت في القطب الشمالي، في شهر آذار/مارس من العام الماضي.
خلاصة القول مفادها أن القراءة المتأنية للعقيدة البحرية الروسية الجديدة تؤكد أنها بمثابة رد فعل روسي على التوترات المتزايدة بين موسكو وحلف الناتو، سواء على خلفية معارك أوكرانيا، أو عودة المحاولات الأوروبية إلى تصعيد الموقف الاستراتيجي في القطب الشمالي، وخصوصاً في ظل تزايد احتمالات دخول النرويج وفنلندا للحلف.
كذلك، تضع موسكو أمام ناظريها حقيقة، مفادها أن الوضع التكتيكي، بالنسبة إلى البحرية الأميركية في البحار المتعددة، يبدو أفضل كثيراً من الوضع الروسي، وخصوصاً قيام واشنطن بإعادة تفعيل “الأسطول الثاني”، أو ما يعرف بـ”أسطول الأطلسي”، بهدف أساسي، هو التصدي للأنشطة البحرية الروسية.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين