| ابراهيم الأمين
دعوا الجماعات اللبنانية التابعة لأميركا والسعودية تدير الأمور على طريقة الزواريب. عندما يكون النقاش متعلقاً بملف له بعده الإقليمي والدولي، لا يبقى لهؤلاء أي دور سوى الانتظار والتفرّج. صحيح أن وليد جنبلاط، مثلاً، يكثر من دورانه، لكنه يتصرف بواقعية شديدة إزاء ملفات حساسة كملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو. فهو، بمعزل عن قناعاته الفعلية، ليس من أنصار المكابرة، ويجد طريقة للتعبير عن الأمر بما يجعله يبدو مسكيناً عبر القول: سنعرف من حزب الله ما الذي يحصل؟
استعارة موقف جنبلاط ليست انتقاصاً من أحد من بقية القوى اللبنانية، الرسمية منها أو السياسية أو «ما بين بين». لكنها ضرورية حتى لا يُفاجأ أحد إذا ما استفقنا يوماً على مشروع اتفاق أو مشروع حرب مع العدو. أما الأطراف المعنية بالملف فيمكن تحديدها، وفق الأهمية، كالآتي:
في لبنان، هناك موقف المقاومة وموقف الدولة اللبنانية ممثلة بالرؤساء الثلاثة. وفي الخارج، هناك موقف الولايات المتحدة وإسرائيل، وموقف العواصم المعنية بملف الغاز في شرق المتوسط، بما فيها تلك التي تنتظر استخراج الغاز من حقول السواحل الشرقية للمتوسط.
حتى لحظة الإعلان الرسمي على لسان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، كان الجميع خارج لبنان يتعامل مع هذا الملف بخفّة. واصلت إسرائيل خطواتها التحضيرية للاستخراج من دون اعتبار لرأي أحد، وحوّل الوسيط الأميركي وساطته إلى «كزدورة» بين العواصم وصولاً إلى الشركات المعنية بالعمل. لكن، بعد إعلان نصرالله موقفه، ثم عملية المسيّرات، انقلب المشهد تماماً.
بادر الإسرائيليون من تلقاء أنفسهم، وسريعاً، بإبلاغ كل من يهمه الأمر، في المنطقة والعالم، أن تجربتهم مع حزب الله تجعلهم يتصرفون على أساس أنهم أمام تهديد جدي وفعلي وكبير. وسارعت الجهات المعنية في كيان العدو إلى درس المخاطر من النواحي الأمنية والعسكرية والمادية، حيث يدور الحديث عن خسائر لا تقل عن ثلاثين مليار دولار قبل احتساب خسائر عدم الاستخراج. والعدو كان أول من أبلغ الأميركيين بضرورة التصرف بحذر وجدية. وهذا كلام قيل مرات عدة لهوكشتين الذي كان يعتقد أنه يدير الملف على طريقة إدارة السفيرة الأميركية في بيروت للقوى الحليفة لها والجمعيات والمنظمات غير الحكومية التابعة لها، متسلحاً بعناصر الضغط التي يملكها الأميركيون على أركان السلطة بما يمنعهم من إغضابها. لكن السفارة الأميركية في بيروت، كما الأجهزة والجهات المعنية في الولايات المتحدة، تعرف أن الأمر يصبح مختلفاً عندما يتعلق بحزب الله.
إسرائيل تتعهّد القبول بحقوق لبنان وتأجيل الاستخراج في كاريش مقابل سحب التهديد بالحرب
أولاً، سحب من التداول العرض الإسرائيلي بالمقايضة بين حقل قانا والبلوك 8، كما سُحبت كل الأفكار الأخرى، الإسرائيلية والأميركية والخليجية (الإماراتية)، بإقامة إطار تعاون غير مباشر من خلال اعتماد مبدأ «الحقول المشتركة» أو الشركات التي تعمل في حقول البلدين، أو صندوق العائدات المشترك.
ثالثاً، بادر الأميركيون بالعمل على احتواء أي خلافات داخل إسرائيل حول ملف الترسيم، سواء بإبلاغ حكومة يائير لابيد بأن لا حجة لديها لوقف التفاوض. أو من خلال التفاهم مع زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو على إبقاء هذا الملف خارج الاستثمار في الانتخابات النيابية، مع وضعه في أجواء المفاوضات ليلتزم بها في حال تمكّن من الفوز بالانتخابات وعدم الانقلاب عليها.
رابعاً، ثبت لدى المستوى الأمني والعسكري في كيان العدو بأن حزب الله قادر على تدمير كل المنشآت قبالة ساحل فلسطين المحتلة، وأن هناك صعوبات حقيقية في منعه من ذلك، وأن أي رد على عمل يبادر به الحزب قد لا ينتهي بأيام قتالية، بل قد يقود إلى حرب شاملة لا يبدو أن إسرائيل مستعدة لها الآن. وقد لعبت توصية المستويات الأمنية والعسكرية دوراً حاسماً في قرار حكومة لابيد الانخراط في التفاوض بشكل مختلف.
عند هذا الحد، صار هاجس الجانبين الأميركي والإسرائيلي ضمان عدم مبادرة حزب الله إلى عمل عسكري يقود إلى حرب شاملة. وهنا، يبدو أن وساطات انطلقت من قبل جهات أو شخصيات تملك قدرة على التواصل غير المباشر مع الجانبين، وتوصل الوسطاء إلى نتيجة أساسية مفادها أن حزب الله لا يريد الحرب للحرب، لكنه مستعد للدخول فيها في حال تجاهل العدو مطالب لبنان. مع تأكيد الحزب أنه ليس معنياً بأي تفاوض حول الملف نفسه، وأن الرؤساء الثلاثة هم المرجعية الرسمية اللبنانية الصالحة للبت في أي اتفاق. وفي الوقت نفسه، التشديد على أن المقاومة لن توافق على ما قد ينتقص من حقوق وسيادة لبنان. وهذا بند جرى حسمه أصلاً بين الرؤساء الثلاثة وحزب الله قبل الشروع في الجولات الأخيرة من المفاوضات.
السؤال الذي طرحه من يمكن وصفهم بالوسطاء كان جوابه بسيطاً للغاية. وهو أنه يجب المضي سريعاً في التفاوض لتكريس الحقوق اللبنانية من خلال اتفاق غير مباشر برعاية الأمم المتحدة. وفي حال حصل ذلك ضمن مهلة زمنية معقولة، فإن الحرب تصبح غير ذات معنى. لكن يبدو من بعض المعطيات أن العدو ليس جاهزاً تماماً لإنجاز الاتفاق الآن، وثمة تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت حكومة لابيد تفضل تأجيل الملف إلى ما بعد الانتخابات. لكنها إن قررت ذلك، ستكون مسؤولة عن أي تدهور أمني أو عسكري يحصل، وفي الحالتين عليها ابتداع المقترحات المقنعة لعدم اندلاع الحرب.
مباشرة الشركات العالمية عملها في بقية حقول لبنان شرط لازم لعمل الشركات في الحقول قبالة فلسطين
لكن الجانبين الأميركي والإسرائيلي يعرفان أنه يمكن للعدو أن يوقف العمل في «كاريش» فيما يواصل العمل في الحقول الأخرى، وهو ما لفت إليه الجانب اللبناني مطالباً بضمان السماح للشركات العالمية ببدء العمل في التنقيب أو الاستخراج في الحقول اللبنانية الأخرى، إلى أن يتم حسم ملف الترسيم والذي يخص «كاريش» و«قانا».
عند هذه النقطة، حاول الجانب الإسرائيلي المماطلة لكسب الوقت للقيام بعمليات استخراج لكميات كبيرة من الغاز في الحقول الجنوبية لتلبية حاجات أسواقه الداخلية أو بيع كميات إلى الخارج. لكن الجواب اللبناني جاء أكثر وضوحاً، وتضمّن الآتي:
– إن منع الحرب يقتضي أولاً وقف العمل في حقل «كاريش» بعد الإقرار بحقوق لبنان في حقل «قانا» والخط 23، وأن يصار إلى تنظيم اتفاق كامل في أسرع وقت ممكن.
– إن مباشرة الشركات العالمية العمل في الحقول اللبنانية الأخرى صار شرطاً لازماً لمنح العدو الإذن بالعمل في الحقول الأخرى.
عملياً، صرنا أمام معادلتين لمنع الحرب: «كاريش مقابل قانا» و«العمل في كل الحقول مقابل العمل في كل الحقول».
في هذه الأثناء، كانت الجهات الأوروبية والشركات العالمية تتابع المحادثات عن كثب. وبادرت الحكومة الفرنسية باستطلاع المواقف من جميع الأطراف. وعندما زار هوكشتين بيروت التقى طاقم السفارة الفرنسية بعيداً من الإعلام، وتواصلت السفيرة الفرنسية آن غريو مباشرة مع حزب الله، كما تولت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا إطلاع سفراء أوروبيين آخرين على نتائج الاتصالات. ومع تقدم البحث، والانتقال إلى النقطة التي تخص عمل الشركات العالمية في حقول لبنان، بادر الفرنسيون بالحديث السياسي لأول مرة، بعدما كانوا يكررون لازمة أن «توتال» شركة خاصة تدرس خياراتها من تلقاء نفسها، ولا سلطة للحكومة الفرنسية عليها. واضطر الفرنسيون الذين يظهرون قصوراً كبيراً في التفاوض ولعب الأدوار الجيدة إلى «التواضع» قليلاً وأن يحملوا أجوبة واقعية تظهر الآتي:
توتال: مستعدون للعودة مباشرة إلى لبنان إذا حصل اتفاق ومقابل ضمانة أميركية بعدم شمولنا بأي عقوبات
ثانياً، إن هذا الإذن مرهون بأن تتبلغ فرنسا من الولايات المتحدة وإسرائيل والحكومة اللبنانية وحزب الله ضمانات بأنه ليس هناك حرب أو مواجهات عسكرية أو أمنية تهدد مصالح الشركة ومنشآتها والعاملين فيها.
ثالثاً، إنه فور تبلغ الاتفاق ستكون «توتال» مستعدة للعمل في أي حقل تقرره الحكومة اللبنانية وليس فقط في البلوكات الحدودية مع فلسطين المحتلة.
رابعاً، إن الشركة الفرنسية مضطرة لتبلغ إعفاء أميركي واضح من أي عقوبات مفروضة على من يعمل مع لبنان خلافاً للقوانين الأميركية. وتبين أن السبب يعود إلى أن صناديق الائتمان الاجتماعي الأميركي تستثمر أكثر من 30 في المئة من أسهم «توتال»، وهذا يعني أن الشركة تخضع كلياً للقوانين الأميركية (أي شركة يملك فيها أميركيون أكثر من عشرة في المئة وتسجل حصصهم في أميركا تجعل الشركة خاضعة للقوانين الأميركية)، بالتالي فإن الشركة تحتاج إلى إذن رسمي واضح ومكتوب من الولايات المتحدة للمباشرة في أي عمل في لبنان.
عند هذه النقطة، ينتظر الجميع الجولة الجديدة من المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة مستعينة بجهات دولية وعربية. ومع أن الجانب الإسرائيلي يظهر استعداداً للتنازل. إلا أن التجارب التاريخية تمنع المقاومة من تصديق هذه الأقوال، ولذلك فقد أبلغت من يهمه الأمر تثبيتها لمبدأ التسوية مع الحكومة اللبنانية على أن يصار إلى ترجمته وضمانته أميركياً وأوروبياً خلال وقت سريع، وإلا فإن خيار الحرب سيظل مطروحاً على الطاولة.
بناء على ما تقدم، بادر هوكشتين إلى اتصالات مع جهات لبنانية خلال الأيام القليلة الماضية لإبلاغها بأن «كل الأجواء السلبية إنما تصدر من قبل جهات عندكم، ولا علاقة لنا أو للإسرائيليين بها، بل نرى أن هناك تقدماً يتيح التوصل إلى اتفاق». وأضاف: «عندما زرت لبنان أخيراً انتقلت ليلاً عبر الناقورة إلى تل أبيب، لكن كان المسؤولون في إسرائيل منشغلين بالحرب على غزة ولم يتطرق الاجتماع الوزاري المصغر إلى مسألة ترسيم الحدود، وقابلت رئيس الحكومة واتفقنا على الإطار الإيجابي». وختم: «أنا بانتظار موعد مرتقب لي في إسرائيل خلال أيام قليلة وسوف يبنى على أساسه الكثير من الخطوات».
الجميع في الانتظار!