لم تبادر الصين، على خلفية الاستفزازت الأميركية المتتالية، إلى تصعيدٍ غير محسوب النتائج. هذا ما يبيّنه النهج الذي اختطّته في الردّ على زيارات المسؤولين الأميركيين، من خلال تكثيف بكين مناوراتها العسكرية، الأكبر من نوعها على الإطلاق، في محيط تايوان، كما لو أنّها محاكاة لغزوٍ وشيك. وفي موازاة سياسة النفس الطويل هذه وضبْط الردّ بما لا يسمح بانفلاته، تواصل الولايات المتحدة «اللعب بالنار»، عبر إيفاد مسؤوليها تباعاً للاطمئنان إلى أحوال الجزيرة الديموقراطية، فيما تسعى تايبيه إلى استعراض القوّة وكسْب تعاطف المجتمع الدولي المنشغل بحرب أوكرانيا، وكأنّ الحرب واقعةٌ لا محالة
تكثّف الصين مناوراتها العسكرية حول تايوان، كما لو أنّها محاكاة لغزوٍ وشيك. هذا ما توحي به تحرُّكاتها، في ظلّ بلوغ منسوب التوتُّر الصيني – الأميركي نقطة حسّاسة، أجّجتها الزيارات المتتابعة لمسؤولي الولايات المتحدة إلى الجزيرة الصينية. وفيما يتواصل المسار الذي اختطّته بكين، وتزامَن مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايبيه، تُبدي الأخيرة استعداداً «في مواجهة التهديد المتمثّل بالمناورات العسكرية الأخيرة للقوات الشيوعية الصينية»، و«يقظةً في موازاة ترسيخ مفهوم: ساحات القتال في كل مكان والتدريب في أيّ وقت، لضمان الأمن القومي»، على ما يقول مسؤولوها الذين تلقّى بعضهم دفعة عقوبات صينية أوّلية، على خلفية ميولهم «الانفصالية الصرفة». مع هذا، تستمرّ تايوان في اتباع سياسة «تعزّز استقلاليتها»، بينما تسعى إلى استعراض القوّة وكسْب تعاطف المجتمع الدولي المنشغل بحرب أوكرانيا. وفي هذا الإطار، دعت وزارة الدفاع التايوانية وسائل الإعلام العالمية إلى «قاعدة هوالين» الجويّة الرئيسية على الساحل الشرقي الجبلي لتايوان، لمشاهدة كيفيّة تحميل الطاقم الأرضي التايواني للأسلحة بسرعة على طائرات الـ«إف-16»، ومنها صواريخ «هاربون» المضادة للسفن، والتي تصنعها شركة «بوينغ».
لكن ردّ الصين على الزيارة التي قامت بها بيلوسي، ومن بعدها وفدٌ من أعضاء الكونغرس، إلى تايوان، ظلّ مضبوطاً تحت سقف التصعيد المقبول. وعلى رغم تصاعد التوتُّر بين بكين وواشنطن، مرّت الزيارتان بأقلّ الأضرار الممكنة، إلى حدّ أن بعض المحلّلين رأوا أن بكين «لم تنفّذ أيّاً من تهديداتها». لكن آخرين اعتبروا أن ما جرى «سرّع كارثة كانت ستأخذ مدى زمنيّاً أطول»، وخصوصاً أن الزيارة الأميركية تزامنت وبدءَ الجيش الصيني أكبر مناورات عسكرية في تاريخه حول تايوان، جعلت الأخيرة تبدو كأنها محاصرة من كلّ جانب، فضلاً عن تأثيراتها على حركة التجارة والسفن في المضيق (أكثر من نصف أسطول الحاويات في العالم يمرّ عبره، إضافةً إلى 240 سفينة يوميّاً)، وعلى حركة الطيران المدني. ووفق خبراء اقتصاديين، أثّرت التدريبات الصينية بشكل كبير على الأسواق وسلاسل التوريد، وهو ما ولّد قلقاً في الأسواق المالية من احتمال تكرار بكين تدريبات من هذا النوع. وخلال مناوراتها، قامت الصين، للمرّة الأولى، بإطلاق صواريخ باليستية فوق الجزيرة من طراز «PHL 16» – وهو نظام مدفعي صاروخي ثقيل تمّ الكشف عنه في عرض عسكري قبل خمس سنوات -، أحدها حلّق فوق تايبيه. ووصف نائب الأدميرال في الأسطول الأميركي السابع، كارل توماس، قرار بكين إطلاق صواريخ فوق تايوان بأنه «غير مسؤول»، معتبراً أنه «يجب إعادة النظر في تصرفات الصين ومطالبها». وقارن هذا المسؤول بين «التهديد» الذي تتعرّض له تايوان، والأسلوب الذي تنتهجه بكين في بحر الصين الجنوبي، قائلاً: «إذا لم تواجهوها… يمكن أن تصبح، على حين غرّة، مثل الجزر في بحر الصين الجنوبي (التي) أصبحت الآن مواقع عسكرية».
أجرى الجيش الصيني أكبر مناورات عسكرية في تاريخه حول تايوان
في هذا الوقت، وبالتوازي مع تحرّكاتها العسكرية، وفي محاولة لمضاعفة الضغط الاقتصادي على تايبيه، فرضت بكين، الثلاثاء، عقوبات على سبعة مسؤولين تايوانيين كبار، بسبب ميولهم «الانفصالية المحضة»، شملت بشكل أساسي شخصيّات بارزة من «الحزب التقدّمي الديموقراطي» الذي تتزعّمه الرئيسة تساي إنغ وين، بسبب أنشطتها «التي أصبحت أكثر ضرراً»، ولا سيما أثناء زيارة بيلوسي، وفقاً لـ«شينخوا». وتنصّ العقوبات على منع هذه الشخصيات من دخول الصين، بما في ذلك هونغ كونغ وماكاو، أو إقامة علاقات اقتصادية مع كيانات في البرّ الرئيسي. وجاء ردّ تايوان والولايات المتحدة، أمس، بالإعلان عن خطط لإجراء محادثات تجارية بداية الخريف المقبل، يُتوقّع أن تشمل مجالات مختلفة من الزراعة إلى التجارة الرقمية والممارسات التنظيمية وإزالة الحواجز التجارية، بحسب ما أعلن مكتب الممثّل التجاري للولايات المتحدة. وقالت نائبة الممثّل التجاري الأميركي، سارة بيانكي، إن المحادثات ستسعى إلى «تعميق علاقاتنا التجارية والاستثمارية وتعزيز أولويات التجارة المتبادلة القائمة على أساس القيم المشتركة وتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي الشامل لعمالنا وشركاتنا». وفي الوقت ذاته، أكدت الولايات المتحدة أن «موقفها حيال تايوان لم يتغيّر»، متهمةً الصين بـ«تهديد السلام في مضيق تايوان واستخدام زيارة بيلوسي ذريعة للمناورات العسكرية». ورأى كبير الموفدين الأميركيين إلى شرق آسيا، مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والهادئ، دانيال كريتنبرينك، أن بكين ستقوم على الأرجح بزيادة الضغط على تايوان في الأشهر المقبلة بعد المناورات، قائلاً: «لم تتغيّر سياستنا، لكن ما تَغيّر هو التضييق المتزايد من جانب بكين… هذه الأفعال تندرج ضمن حملة ضغوط مكثّفة لترهيب تايوان ومضايقتها وتقويض قدرتها على الصمود». وشدّد الموفد على أن واشطن ستردّ على «السلوك العدواني» للصين «بخطوات هادئة، ولكن حازمة»، لإبقاء مضيق تايوان مفتوحاً يسوده السلام.